السبت، 31 ديسمبر 2011

حنا مينا - كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين



* ولد في اللاذقية 1924 لعائلة فقيرة، وعاش طفولته في حي (المستنقع) في إحدى قرى لواء اسكندرون. بعد ضم اللواء لتركيا عام 1939، عاد مع عائلته إلى اللاذقية حيث عمل حلاقاً.
* احترف العمل بداية في الميناء كحمّال ثم احترف البحر كبحّار على المراكب.
* اشتغل في مهن كثيرة ، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة ، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة،
* أرسل قصصه الأولى إلى الصحف الدمشقية.
* انتقل إلى بيروت عام 1946 بحثاً عن عمل ثم إلى دمشق عام 1947 حيث استقر فيها، وعمل في جريدة الإنشاء حتى أصبح رئيساً لتحريرها.
* البداية لأدبية الأولى كانت متواضعة جداً ، فقد أخذ بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة
* ثم  تدرّج، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سوريا ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة.
* بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية ولما ضاعت تهيب من المسرح
* أولى رواياته التي كتبتها كانت (المصابيح الزرق)
*الأعمال الأدبية (30 رواية حتى الآن) منها حوالي الثمان خصصها للبحر الذي عشقه
* من  روايته الشهيرة  (النجوم تحاكم القمر)، و(القمر في المحاق ) ، ( نهاية رجل شجاع ) ، ( بقايا صور ) .. ومنها ما تحول  إلى أعمال تلفزيونية .
*دخل المعترك السياسي الحزبي مبكرا وهو  فتى في الثانية عشرة من عمره وناضل ضد الانتداب الفرنسي، ثم هجر الانتماء الحزبي  في منتصف الستينيات، وكرّس حياته  للأدب، وللرواية تخصيصاً
* عاش رحلة اغتراب قاسية بين المدن : انطلق من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مروراً باسكندرونة ، ثم  اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوج، وتشرد مع عائلته  لظروف قاهرة، عبر أوربا وصولاً إلى الصين، حيث أقام خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، وقد دام العشرة من الأعوام..
* ساهم مع لفيف من الكتاب اليساريين في سورية عام (1951) بتأسيس رابطة الكتاب السوريين، والتي كان من أعضائها : سعد حورانية ـ فاتح المدرس ـ شوقي بغدادي ـ صلاح دهني ـ مواهب كيالي ـ حسيب كيالي ـ مصطفي الحلاج وآخرون، وقد نظمت الرابطة عام (1954) المؤتمر الأول للكتاب العرب بمشاركة عدد من الكتاب الوطنين والديمقراطيين في سورية والبلاد العربية.
* ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب
* كتب الكثير من الروايات، معظمها يصف حياة البحارين في اللاذقية وصراعهم مع أخطار البحر.
* أب لخمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم، توفي في الخمسينيات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، أصغر أولاده ، وهو ممثل ناجح  الآن، شارك في بطولة المسلسل التلفزيوني (نهاية رجل شجاع) المأخوذة عن رواية والده ولديه ثلاث بنات: سلوى (طبيبة)، سوسن (مخدرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي)، وأمل (مهندسة مدنية) وقد تزوجن
* كما شارك بدور البطولة (شاهين) في المسلسل التلفزيوني المهم (الجوارح) وكلا المسلسلين من إخراج نجدت إسماعيل أنزور 
 
رواياته ومؤلفاته :  
معظم رواياته تدور حول البحر وأهله، دلالة على تأثره بحياة البحارة أثتاء حياته في اللاذقية.
1- المصابيح الزرق
http://www.4shared.com/office/sq58RGBc/__online.html
2- الشراع والعاصفة 
http://www.4shared.com/office/UouCj2tH/___online.html
4- الأبنوسة البيضاء
http://www.4shared.com/office/GLOg7Slm/__-_.html
7- الثلج يأتي من النافذة
http://www.4shared.com/zip/p4zj4N68/_____.html
8- الشمس في يوم غائم
9- بقايا صور
13- حمامة زرقاء في السحب
http://www.maktbtna2211.com/book/7007
14- الولاعة
15- فوق الجبل وتحت الثلج
16- حدث في بيتاخو
17- النجوم تحاكي القمر
18- القمر في المحاق
19- عروس الموجة السوداء
20- الرجل الذى يكره نفسه
http://www.maktbtna2211.com/book/7047
21- الفم الكرزى
22- حين مات النهر
23- صراع امرأتين
24- حارة الشحادين
25- البحر والسفينة وهي
26- عاهرة ونصف مجنون
27- مأساة ديمتريو
28- بطاقة توصية
29- الرواية والروائي
30- مجموعة قصص

31- على الأكياس
32- الدقل
33- المرفأ البعيد
34- رسالة من أمي
35- علبة التبغ
36- حوارات و أحاديث في الحياة و الكتابة الروائية
37- شرف قاطع طريق

38- المغامرة الأخيرة

http://www.maktbtna2211.com/book/7025


 
يقول عن نفسه
(أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين) فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في (المسيرة الكبرى) نحو الغد الأفضل



يقول عن مهنته الأخيرة
مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة.
لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قبّاني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين.

يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع النقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إلي، ورقة خريف أسقطت مصابيح زرق

يقول عن البحر الذي عشقه
إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل:
هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول:
في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر!
أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟
إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟!
البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة.
إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء!
الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب.

لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي: أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟!
أين، أين؟! هناك البحر وأنا على اليابسة؟! أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.

 من أشهر رواياته
"المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" و"الياطر" و"الأبنوسة البيضاء" و"حكاية بحار" و"نهاية رجل شجاع".

 
أضواء على السيرة الذاتية

لم أكن أتصور بأنني سأصبح كاتبا



لم أكن أتصور حتى في الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً، بدأت رحلة التشرد وأنا في الثالثة من عمري، وهذه الرحلة من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان فهي أبعد من ذلك وستبقي ما بقيت .
كان أبي رحمة الله رحالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول، تاركاً العائلة أغلب الأحيان، وفي الأرياف للخوف والظلمة والجوع، ولطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعي؟ لا جواب طبعاً، انه بوهيمي بالفطرة .
كنت عليلاً، أمي وأخواتي الثلاث عملن خادمات، عملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً .
بداياتي الأدبية كانت متواضعة جداً، فقد أخذت منذ تركت المدرسة الابتدائية بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي الي ذويه، وسفيره المعتمد لدي الدوائر، أقدّم لها بدلاً من أوراق الاعتماد عرائض تتضمن شكاوي المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: اننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضي، أميون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفي، رحيل الانتداب الفرنسي ومطالبة الحكومة في فجر الاستقلال أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا... بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها علي كيفي، غيرت العالم علي كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها، ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح ولم أزل، القصص ضاعت أيضاً، لم اشعر بالأسف وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة؟ ثمّ انني لم أفكر وأنا حلاق وسياسي مطارد بأنني سأصبح كاتباً، كان هذا فوق طموحي رغم رحابة هذا الطموح صدقوني انني حتي الآن كاتب دخيل علي المهنة وأفكر بعد هذا العمر الطويل بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكتابة ليست سواراً من ذهب بل أقصر طريق الي التعاسة الكاملة .
لقد كتبت عن مصادفات في حياتي كنت فيها قريباً من البحر وقادراً أن أكون بجواره، ولكنني لا أقبل أن أقيم الا في بيتي في دمشق التي أحبها جداً وأتغزل بها حيثما ذهبت. 
حملت صليبي منذ ستين عاماً ولم أجد من يصلبني لعلني أستريح، لقد بت أكره الكتابة بت أكره هذه المهنة الحزينة التي لا فكاك منها الا بالموت وقد بت أخاف ألا أموت وكان ذلك عقابا لي علي اختراقي للمألوف، أعيش في قلق، وأبارك هذا القلق ثلاثاً وألعن الطمأنينة، دودة الفكر التي تنقب في دماغي لا تتركني أستريح والنفس تأبي أن تستريح، الروح المجروحة المدماة لا تشيخ بل تنزل مع صاحبها الي القبر، الجسد هو الذي يخون وقد خانني جسدي . 
عشت عمري كلّه مع المغامرة، كنت علي موعد مع الموت ولم أهبه، الموت جبان لمن ينذر له نفسه. ثمانون عاماً تضعني علي مزلقها والموت الذي أسعي اليه يفرّ مني !

من أي جامعة تخرجت 


الراحل الدكتور عادل العوا، استاذ الفلسفة في جامعة دمشق، سألني وأنا إلى جانبه في احدى المناسبات: "دكتور حنا، من أي جامعة تخرّجت؟" أجبته بغير قليل من الجدية "من جامعة الفقر الأسود!" قال: "عجيب، أنا لم اسمع بهذه الجامعة!".

الدكتور العوا كان طيباً، درس الفلسفة وعلّمها في جامعة دمشق، لكنه، كما يبدو، انصرف إلى قراءة الفلسفة، وتعليمها، وكتب بعض المؤلفات، ومنها كتابه المعروف "الكرامة"، ولم يكن لديه وقت لقراءة الأدب، وهذا مؤسف، إلا انه واقع، فالطبقة الليبرالية في سورية، وربما في الوطن العربي أيضاً، لا تقرأ الأدب، ولماذا تقرأه، وهي تسعى إلى ما هو أنفع، فمتاع الدنيا الغرور، ينفع كثيراً، سواء في الوجاهة، أو جمع ما يؤكد هذه الوجاهة، ويثبتها، ويجعلها بريقاً أصفر، يسطع كنور الشمس في أيام الصيف، وتبقى قراءة الأدب ترفاً، يمارسه من ليس له ترف، في الوجاهة أو السيادة، أو المكانة المرموقة في المجتمع، مثل بعض المثقفين، والطلاب الجامعيين، والشرائح التي تسعى إلى المعرفة، لإدراك ما يجري في العالم من حولها، عربياً ودولياً!

بالنسبة لي، أنا خريج جامعة الفقر الأسود، الفقر نوعان: أبيض كالذي اعيشه الآن، وأسود كالذي عشته في طفولتي، حين كنت جائعاً، حافياً، عارياً، حرصت أمي، على ادخالي المدرسة، كي يتعلم "فكّ الحرف"، وأن أصبح، بعد فكّه، كاهناً أو شرطياً، ولا توسط بينهما، وبعد ان كبرت، وألقيت بنفسي في التيار الهادر لمقاومة الاحتلال الفرنسي، تمنت الأم لو لم ترسلني إلى المدرسة، وان أكون راعياً، بدل ان أكون مكافحاً في سبيل الاستقلال، وما عانيته في السجون الفرنسية، وحتى السجون الوطنية، على امتداد عهد الاقطاع، بعد الاستقلال، كان يؤرقها.

آمال الأم خابت كلها، فلم ارتسم كاهناً، ولا دخلت سلك الشرطة، أو قدّر لي ان أكون راعياً، مع انني مارست من المهن ما هو أبشع منها وأفظع، فقد عملت، كما هو معروف من سيرة حياتي، أجيراً واجيراً وأجيراً، وتطوعت في البحرية بعد دخول قوات فرنسا الحرة إلى سوريا، في الحرب العالمية الثانية، ولما لم يكن لي حظ التعبئة والتسويق إلى العلمين، لقتال جيش رومل، ذئب الصحراء، فقد تركت الخدمة كجندي في البحرية، لأصبح بحاراً، لمدة قصيرة، على المراكب الشراعية، التي تنتقل بين مرافئ المتوسط العربية، وعلى هذه المراكب، خلال العواصف، عاينت الموت، في نظرات باردة، لأفعى اللجة، ومن هنا كان ولعي بالبحر، ثم الكتابة عنه، عندما تعاطيت مهنة الحرف الحزينة، القذرة واللذيذة، حسب تعبير ارنست همنغواي، والتي لا انفكاك منها سوى بالموت.

لقد قلت، صادقاً، انني ولدت بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ، فالطفل العليل، الذي تنوس حياته كذبالة الشمعة الواهنة، لم تطفئ ريح المتون ذبالة شمعته، وبعد الابحار على المراكب، غدا الرغيف خيَّالاً، وعلي، سداً لجوع العائلة، ان اركض وراءه، ولا أزال، وفي مزدلف الشوط، لم يكن لي، بعدُ، شرف الفروسية، فقد اضطررت للعمل حمالاً في المرفأ، ثم حلاقاً على باب ثكنة في مدينة اللاذقية، ومن الحلاقة إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى كتابة المسلسلات الاذاعية، بالفصحى والعامية، ومنها إلى الوظيفة في وزارة الثقافة، وقبل ذلك إلى المنافي، لأسباب قاهرة، حيث التشرد في أوروبا، والنوم تحت الجسور في سويسرا، وطلب العمل، لا العلم، في الصين، وكل هذا، أو أكثره، معروف من القراء الأعزاء، اذكره للشكر لا لعرض الحال، والشكر، هنا، لأن حياتي الحافلة بالتجارب القاسية، قد نفعتني "أنا الحديدة التي تفولذت بالنار" في المقبل من أيامي، عندما بدأت بالكتابة الفعلية في الأربعين من عمري.

إن العمل في البحر، افادني في كتابة الشراع والعاصفة" والعتالة في المرفأ، اتاحت لي ان اكتب "نهاية رجل شجاع" والاختباء في الغابات، أيام مطاردة الفرنسيين، وفر لي المادة لكتابة "الياطر" أي مرساة السفينة، التي ستغدو أشهر رواياتي، رغم اني لم اكتب الجزء الثاني منها، والناشر لأعمالي يلاحقني كي اكتب هذا الجزء، وأعد، ويتلو الوعد وعداً، والوفاء، منذ ثلاثين عاماً، في مطاوي السحب الأبيض، الارجوانية عند الغروب، حتى بلغت من العمر عتياً، وصار الجزء الثاني نسياً منسياً، ويئس القراء مني، فاسترحت كما لم استرح من قبل، وادرك من حولي، انني نصف عاقل نصف مجنون، وانني، كما أقول، أفضّل نصفي المجنون على نصفي العاقل!

المشكلة ان "من شبّ على شيء شاب عليه" كما يقول المثل، وقد شببت على حب المغامرة حتى صارت في دمي، وصرت على موعد معها، فحيث تكون أكون، ولأنها كائنة في حلق الردى، فإنني من هذا الحلق امرق، فارداً جناحي، في تحليق كتحليق المغامر عباس بن فرناس، دون ان اسقط أو تدق رقبتي، إلا ان هذا التحليق، بحثاً عن المغامرة وفيها، سيتكرر، فالمرء الذي اختاره القدر ليكون كاتباً، أمامه خياران: جنح عصفور أم جنح نسر، وفي الشعر لابد أن يختار الشاعر جنيح نسر، وإلا ظل خائباً كبعض الذين يرفرفون بأجنحتهم فوق مستنقع الكتابة، دون ان يطيروا، ان يحلقوا، فالتحليق في الابداع له شروطه، وفي رأسها ألا يخاف الموت، فالموت، رغم ارتهانه لمشيئة الله، جبان في رأيي، وهو يأتي الحذَر من مكمنه، وأكثر الذين يخافون الموت، ويحتاطون في أمره، في الطعام والشراب والتغامر، أو بحثاً عما يقتل رتابة العيش، يموتون في رتابة عيشهم، وقبلاً يموتون، في الخوف من الموت، في موت أشد إيلاماً، تماماً كالذين هم، في الخوف من الفقر، في فقر، رغم اكتنازهم المال، لأن ما يصرف منه، هو وحده ملك صاحبه، أما ما يتبقى فإنه ملك الورثة، يبعثرونه، غالباً، في وجوه غير مستقيمة، انتقاماً من المورّث الذي حرمهم، في حياته، بعض ما يجعل عيشهم هنيئاً، أو أقل قتامة وادقاعاً.

وإذا كان الشعر، في التوسط، لا شعر، وان الشاعر، بغير تحليق، بغير حلم في هذا التحليق، يسقط في العدم، فإن القاص، مثل تشيكوف، أو مثل يوسف ادريس، له ايضاً سبب، وحتى ضرورة، في ان يرتفع بفنه، ومعه، إلى أعلى، ودائماً إلى أعلى، فالغمام الابداعي في الأعالي يكون، ومنها ينهمر عطراً على شباك فيروز، سفيرتنا إلى النجوم حسب تسمية سعيد عقل، وما يقال عن القاص، يقال بقدر أكبر، عن الروائي، الذي دون تغامر في التجارب، ولو فيها هلاكه، لن يبلغ أن يكون روائياً من لحم ودم، أو حتى ان يتوصل إلى جعل شخوص رواياته من لحم ودم، وبذلك يفقد قارؤه نشوة الانجذاب إليه، أو التحليق معه في الفضاءات التي ينبغي أن يحلق فيها، انطلاقاً من الواقع، وفي صيرورة هذا الواقع واقعاً فنياً، من خلال الانعكاس، في الذات الابداعية، والصدور عنها في معالجة ابداعية، تتطلب الخلق والخيال والتخييل والابتكار في السرد والحوار معاً.
نعم! أنا خريج جامعة الفقر الأسود أو لم يكن لي خيار، في دخول جامعة سواها، أو حتى مدرسة اعدادية، كي اعرف ان اكتب عن الجامعات والمدارس!

أنتم تسألون عن حياتي.. وأنا أجيبكم!

بلغت الثمانين من عمري، في 9 آذار 2004م وحتى هذا التاريخ كنت أخدع نفسي، أو تخدعني نفسي، فأقول للناس، وللقراء الأعزاء أيضاً، ان السبب في شهرتي كروائي، وسعة انتشاري في وطني العربي، وفي العالم كله، مردّه إلى الحظ، فأنا محظوظ جداً، يقرؤني الفقير والأمير، وانني، في سعة الانتشار، أكاد أقترب من سعة انتشار الشاعر المرحوم نزار قباني، وفق بيانات دار الآداب، العريقة بين دور النشر في لبنان كله، وربما في الوطن العري كله.

وقد سألتني سيدة مليحة، تحمل شهادة دكتوراة في تربية الأطفال، وهي رئيسة قسم الأطفال في وزارة الثقافة السورية، عن الانتشار الواسع هذا، فأجبتها:
- الحظ يا سيدتي!
قالت:
- وبعد الحظ؟
- الحظ ولا شيء آخر!
- لا! هناك شيء آخر فما هو؟ أجبني بصدق.
قلت بغرور:
- ما أريده أن يكون، يكون فعلاً!
سكتت السيدة، بعد أن أدهشها جوابي، لكنني أنا، عند بلوغي الثمانين شتاء أدركت أنني كاذب في امرين: الأول أن ما يقال عن ذكائي تهمة باطلة ستكشف في يوم من الأيام، والأمر الثاني انني غير محظوظ، لأنني نكبت في ثلاثة أجيال من عائلتي، ولا ازال رازحاً تحت نير اخطائي الكثيرة، غير المبررة بأي وجه، وانني احمل همي في طريقي الى، وأتألم من ثلاث عاهات: أولها معدتي التي لا ينفع فيها دواء، لأن بها كسلاً في الأمعاء، وتشنجاً في الجهاز الهضمي، وثانيها نتوءات عظمية في ظهري، أكاد أصرخ من ألمها، وثالثها ركبتي اليمنى، وما فيها من جفاف، لهذا ينصحني الأطباء أن أكتب ساعة واحدة، أستريح بعدها، وأنا أعاند وأكتب ساعات متواصلة.

ماذا أسمي هذا كله!؟ وهل أحيلكم إلى رواياتي فاتعبكم!؟ الأفضل ان أعرض الأمور بإيجاز، قدر المستطاع، وأن أحدثكم عن حياتي الأدبية، وكيف بدأت، وعن نشئتي الأولى! إنني لم أكن أتصور، حتى في الأربعين من عمري، إني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت، كما هو معروف عني، بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً، ولنبدأ بالكلام على حياة الطفولة، هذه التي أصبحت بعيدة جداً الآن، من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان، فهي أبعد من ذلك، وستبقى ما بقيت، بسبب أن التأمل، التلفت، الاستشراف، تمثل الوعي الأول للوجود، وكل هذه الذكريات التي تنثال في الخاطر، أصبحت مرنقة الآن، وأنا ألعنها لأنها تغتالني بلا رحمة!

والدتي اسمها مريانا ميخائيل زكور، وقد رُزقت بثلاث بنات كن، بالنسبة لذلك الزمان، ثلاث مصائب، عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير الى حد التعاسة، كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة، وقد تعاون هذا الوسط، وما فيه من ظلم ذوي القربى، على اذلال والدتي، باتهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أنه تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل، أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء، بالتتابع أيضاً.

وستقول لي أمي، حين أكبر: «أسمع يا حنا! أنت ابن الشحادة، فقد شحدتك، منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها، كانت تعاقبني، فأرزق ببنت، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع، الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنتُ، قبل ذلك، أبكي من الحزن. لقد منحتني إياك بعد طول انتظار، وطول معاناة، لكن المحنحة كانت، حتى مع الشكر، منحة مهددة بالأمراض، والخوف عليك منها، ثم الدعاء إلى الله، في أن تعيش، كرمي لي، حتى لا أعيش الخيبة من جديد، وهذ ما حدث، فقد ولدت عليلاً، ونشأت عليلاً، وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك، الذي كان طراحة على حصيرة في بيت فقير الى حد البؤس الحقيقي.. كنت شمعة تنوس ذبالتها في مهب ريح المرض، وكنت اسأل الله، وأنذر النذور، وأسأل الريح، بكل ما في الابتهال من ضراعة، ألا تنطفئ الشمعة التي كنتها، حتى لا أفجع فجيعة تودي بي إلى القبر، وشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تعيش في قلب الخطر، وهذا الخطر لازمك حتى الشباب، وعندها تحول من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، هذه التي أبكتني بكاءً مضاعفاً، خشية ألا أراك، وأنت تعطي نفسك للعذاب في سبيل ما كنت تسميه المتحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية!».

هكذا ولدت في قلب الخطر، وترعرعت في جوف حوته أيضاً، وناضلت ضد هذا الخطر بلا هوادة، فكان المبدأ الذي شببت عليه، عاملاً أساسياً في شفائي الجسدي والنفسي، لذلك قلت يوماً، بعد أن صرت كاتباً: «أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين» فالكفاح له فرحة، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن، في أغماقك، أن انقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها ايضاً.

إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى، في حي «المستنقع» الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل للتجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في «المسيرة الكبرى» نحو الغد الأفضل.

لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء وجوهري لدي: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرض علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى، فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت، مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل اغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً الى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.

وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه، بتمام الكلمة، أمياً، متخلفاً، إلى درجة لا تصدق.. لم يكن في حي المستنقع كله، من يقرأ ويكتب. كان سكان هذا الحي، والأحياء المجاورة، من المعذبين في الأرض، الباحثين، دون جدوى، عن الخلاص، وعن العدالة الاجتماعية التي لا يعرفون اسمها بعد!
لكنهم سيتعلمون تدريجيا، سيعرفون الفقر ليس من الله جل جلاله، وسأقول لهم، ما قاله الصحابي عمر بن الخطاب «ما اغتنى غني الا بفقر فقير» وان الذين فوق ليسوا سيئين كلهم، وان الذين تحت ليسوا فضلاً كلهم بالمبدأ!

 
لقد كنت من مؤسسي رابطة الكتاب السوريين عام 1951

أجري في دمشق في منزل الأستاذ حنا مينه في الفترة بين 8 و 14 من نيسان 2002


في الرواية العربية، لا يذكر البحر إلا ويذكر حنا مينه، وكأنهما توأمان بل هما كذلك، انبثقا من رحم الساحل السوري، ليبلورا معاً أدباً خالداً في الزمان. ومن " المصابيح الزرق " إلى " حارة الشحادين " مروراً بثلاثيتين .. والثلج يأتي من النافذة والشمس في يوم غائم، رحلة ملأى بالصعاب، فالصبي يكاد يهلك بحثاً عن لقمة العيش وكذلك يفعل الفتى لإعالة عائلته، ثم الشاب الذي انطلق مع قصصه القصيرة، وصولاً إلى بزوغ نجمه مع روايته " الشراع والعاصفة " وليس انتهاء بتكريمه مرات على امتداد العالم، لإثمار جهوده في حقل الرواية، وتكريماً لعمر مضى شاقاً وعسيراً نصفه الأول.

تقرأ حنا مينه، فتظن أنك تقرأ ملاحم في الشعر.. هكذا تترك فيك "الياطر" من انطباع وتقرأ " الشمس في يوم غائم " فتبصر نفسك في قلب الأسطورة تعانق تلك التفاصيل المغرقة في القدم، ويحيلك الشعور الداهم بالرمز من حيث تدري ولا تدري إلى تلك الأيام الخوالي من رحلة الإنسان في بحثه عن المعرفة. ولأجل هذا كله، ولانتهاء هذا الأديب إلى سدة العالمية بترجمة كتبه إلى العديد من اللغات الأجنبية. كان لمجلة " الكويت " هذا الحوار:

س1 ـ أريد أن أبدأ من انسحابكم أنتم والمرحوم سعد الله ونوس من اتحاد الكتاب العرب ما هي مبرراته، وتبعاته؟ 
ج1 ـ ليس في الموضوع تبعات، وإن كانت له مبررات، وبدءاً أقول: من يخدم المذبح، من المذبح يأكل، وقد خدمت هذا المذبح، وصعب علي أن آكل منه، لسبب بسيط هو أنني لا أستسيغ أن أخدم بأجر، فيما يتعلق بالخدمة المجانية التي أعتبرها واجباً، لرفعة الأدب والأدباء، كي تتواصل أجيال المبدعين، فلا يكون هناك انقطاع بين جيل وجيل.  
لقد كنت من مؤسسي رابطة الكتاب السوريين عام 1951 ، وكنت من الذين شاركوا في المؤتمر الأول للأدباء العرب عام 1954 ، الذي شاركت فيه
بدعوة من الرابطة، وعن هذا المؤتمر انبثقت رابطة الكتاب العرب، فانتسب إليها الكثيرون، من الباحث المرحوم حسين مروة، إلى القاص المرحوم يوسف إدريس، إلى الشاعر المرحوم عبد الوهاب البياتي، إلى أمثالهم من كبار المبدعين العرب. 
ثم كنت من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1968 ، وقد كان العنوان المقترح لهذا الاتحاد هو التالي: " اتحاد الكتاب العرب والعاملين في الحقل الثقافي " وفي الجمعية التأسيسية، برئاسة المرحوم سليمان الخش، جاهدت مع زكريا تامر وآخرين، لحذف عبارة " العاملين في الحقل الثقافي " لشمولها على كل هب ودب من العاملين في هذا الحقل، ومن المؤسف أن الاتحاد، بعد ذلك، أدخل في عضويته كل من له كتاب مطبوع أو أكثر، فتضخم الاتحاد، بشكل استيعابي، حتى بلغ عدد أعضائه ما يفوق الثماني مائة، في حركته التفافية، لا أعرف من المسؤول عنها، وكل ما أعرفه أنه ليس لدينا ، في سوريا ، حتى ربع هذا العدد من الكتاب المجيدين.

ومع أنني من المكتب التنفيذي الأول لهذا الاتحاد مع الشاعر علي الجندي، والشاعر ممدوح عدوان، والروائي حيدر حيدر وغيرهم، فإن ميلي ظل إلى جانب الاتحادات غير الرسمية للكتاب، وتتابعت المكاتب التنفيذية للاتحاد، انتخاباً وتعييناً، وكنت، لعدة دورات، من أعضائها، وسررت لأن المسرحي العربي الكبير سعد الله ونوس، أصبح من أعضاء المكتب التنفيذي، في دورتيه الأخيرتين، اللتين كنت فيهما، وبعد ذلك خرجنا معاً.  
وعندما فصل الاتحاد الشاعر الكبير أدونيس من عضويته، دون مناقشة أو محاكمة، بسبب تهمة التطبيع مع العدو الإسرائيلي التي نسبت إليه، قررنا، سعد الله ونوس وأنا، الاستقالة من عضوية الاتحاد، انتصاراً للحق، ودفعاً للغبن اللاحق بأدونيس، المفصول دون تحقيق من الاتحاد معه، حتى لا يصبح ذلك إجراء له سابقة، مع أنني، وأقول هذا بالنسبة إلي، أختلف مع أدونيس في كثير من أفكاره ومواقفه، ومنها الموقف الذي فصل لأجله دون مساءلته على النحو الذي تفرضه الأصول، ونشرت الاستقالتان في الصحف وهما معروفتان من الجميع، ومعللتان تعليلاً لا لبس فيه، وكان المرحوم سعد الله مريضاً آنذاك، وأحسب أن موقفه من واقعة فصل أدونيس مثل موقفي، وقد استغربنا، حين قرأنا، بعد أيام خبراً في إحدى صحف الاتحاد، مفاده أننا فصلنا من عضويته لأننا مع التطبيع!!!

هذه هي قصة استقالتينا، سعد الله وأنا من عضوية اتحاد الكتاب العرب، وبكل دقة ممكنة، وموقفنا ضد التطبيع معروف، وأنا لست ضد اتحاد الكتاب العرب، لكنني أفضل أن أبقى مستقلاً عن كل اتحادات الكتاب العرب المماثلة، مع الاعتراف أن اتحادنا في سورية قدم، ويقدم، لأعضائه خدمات وفوائد هم بحاجة إليها، ولولاه ما توفرت لهم.

س2 ـ هل الرواية العربية وبحسب تعبير الدكتورة نجاح العطار في تقديمها رواية " الشمس في يوم غائم " ما تزال " تعابث صخرة سيزيف، وتراوح بين السقف والقمة " أم أن لها اليوم شأواً آخر خاصة ونحن نشهد جيلاً من الروائيين هاماً، ولعل أسماء من مثل إبراهيم الكوني من الأسماء الدالة على نضج هذا الفن؟

ج2ـ الرواية العربية نهضت بصخرة سيزيف إلى مكانها في الأعلى، حيث استقرت في محليتها والعالمية، وهذه الرواية، التي قلت عنها في عام 1982، بشهادة الناقد محمد دكروب في كتابه " حوارات وأحاديث " مع حنا مينه، إنها ستكون ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين، قد كانت ديوان العرب في القرن العشرين نفسه، وتحول الجميع إلى كتابة الرواية، هذا الفن الصعب، حتى أن أدونيس وسعدي يوسف وغيرهما، من الشعراء الكبار، أعلنوا أنهم سيكتبون الرواية، لذلك بت أشعر بالذنب لأنني قلت ما قلته حول الرواية وصيرورتها ديوان العرب.

لقد ترجمت روايات نجيب محفوظ، أحد مؤسسي الرواية العربية، إلى لغات كثيرة، بعد نيله جائزة نوبل بجدارة، وقد رشحني، مشكوراً، إلى هذه الجائزة فور تلقيها، لكنني ما باليت، ولن أبالي، بالجوائز، إنما علي أن ألاحظ، هنا، أن رواية، أو روايتين، أو ثلاث، لا تصنع عالماً روائياً، وأزعم، وقد أكون على خطأ، أن هناك اثنين صنعا هذا العالم الروائي، هما نجيب محفوظ وحنا مينه، بصرف النظر عن المحتوى والسوية الفنية، اللذين من حق النقاد أن يعطوا رأياً فيهما، فقد أعطى نجيب محفوظ للرواية العربية الكثير، وأعطيت أنا للرواية العربية ثلاثين رواية، وهناك روايات جاهزة، وروايات تحت الطبع، وروايات لم ير أبطالها النور بعد، وقد ترجمت رواياتي إلى ما يزيد عن سبع عشرة لغة، منها الفرنسية والإيطالية والإسبانية، والإنكليزية والروسية والفارسية وغيرها، مثل الألمانية والتشيكية والأوزبكية، ولغات بعض الجمهوريات السوفيتية سابقاً، وفازت روايتي " الشراع والعاصفة " عام 1993 بجائزة أفضل رواية ترجمت إلى الإيطالية، ودعيت لتسلم الجائزة لكنني اعتذرت بسبب المشاغل.

هل هذا للمباهاة؟ لا! بل هو للتأكيد، أن الرواية العربية تخطت محليتها إلى العالمية، لكنها لم تبلغ ما بلغته رواية أمريكا اللاتينية من الانتشار الواسع بعد، والسبب أن رواية أمريكا اللاتينية لا تضار منها الصهيونية في شيء، بينما الرواية العربية تؤذي الصهيونية، وتفضحها كحركة عنصرية نازية، لذلك تتربص بها، وتحول دون ترجمتها وانتشارها، بما تملك، الصهيونية، من قوة في الإعلام، وسيطرة على الأجهزة الثقافية في أوربا وأمريكا والعدد الكبير من بلدان الغرب ورغم هذا فإن الرواية العربية، لروائيين عرب كثيرين، قد اخترقت الحصار الصهيوني، وهي تترجم إلى اللغات الحية في خط بياني متصاعد، عاماً بعد عام.

ولقد قلت وأكرر، أن أدب الرواية رحب، وهو يتسع للجميع، ولكل من يكتب رواية، وهم كثر، ولكل من تحول إليها مجرباً، أو تجاوز التجريب، فمن هذا الكم سيكون النوع، ولعله أن يكون، مستقبلاً، النوع الأرقى، الذي يخترق جدار الصوت، ولعل غزارة الإنتاج، بالنسبة لكل روائي عربي، تؤدي إلى ما أرغب، وهو أن يكون له عالم روائي متكامل في المقبل من الأعوام، سواء كان إبراهيم الكوني أو غيره، شريطة المثابرة، وعدم تقطع النَفَس، والخروج من الموضوعات البائخة التي لاكتها السينما العربية، والمسلسلات العربية المنهمرة علينا كالحجارة من كل صوب.

قال ميخائيل شولوخوف، صاحب " الدون الهادئ " وجائزة نوبل، في وقت متأخر من عمره " ليس بوسع الفنان أن يكون بارداً حينما يبدع! ولن يكتب عملاً حقيقياً، ولن يجد أبداً السبيل إلى قلب القارئ بدم سمكة، وبقلب خامل مترهل.. إنني إلى جانب أن يغلي الدم الساخن لدى الكاتب عندما يكتب، وأنا إلى جانب أن يشحب وجهه بالحقد الدفين على العدو حينما يكتب عنه، وأن يضحك الكاتب ويبكي سوية مع البطل الذي يحبه، والعزيز على نفسه "

وقال بيلينسكي، الناقد الروسي الشهير: " إن الحدث يأتي من الفكرة كما النبتة من البذرة، والبذرة من التجربة، والتجربة من المعاناة " هذا يعني أن يتخلى من يريدون كتابة الرواية عن سريرهم الوثير، ومقعدهم المريح، أن ينزلوا إلى دنيا الناس، إلى السوق كما قال عمر فاخوري، أن يتخلوا عن أبراجهم العاجية، أن يغامروا في البحر والبر، أن يكافحوا لأن الحياة كفاح، بداية ونهاية، أن يعرفوا جيداً البيئات التي يلتقطون منها أحداث رواياتهم، أن يكونوا جريئين في تمزيق ما كتبوه ليلاً، إذا لم يرضهم عندما يتفحصونه نهاراً، أن يتركوا التجريد الفكري البحت، اقصد التجريد الذهني، الذي يؤدي بهم إلى تناول فكرة مجردة، من صنع خيالهم ولا أساس لها في الواقع المعيش، ويعمدوا بعد ذلك، إلى إلباسها ثوب الحدث، وإكساء شخصياتها الخرق البالية، فالقارئ ذكي، ويكتشف اللعبة الذهنية البحتة، بأسرع مما يتصورون. 

إنني لست ضد التجريد، على ألا يكون وحده المعوّل عليه، في كتابة الرواية، التي هي حكاية حياة، ومعمار فني أصيل.


س3ـ قلت إنك من جيل " التجريب" لم تحاول " الإفادة من التجريب الفني للأساليب الروائية العالمية " ومع ذلك أسست مع أبناء جيلك من الروائيين لما سميته أنت بالرواية " ديوان العرب في القرن الحادي والعشرين ". السؤال: الرواية العربية اليوم، وبرغم إفادتها من منجز الغرب، ومن منجز أمريكا اللاتينية، في حقل التنوع والثراء في الأساليب الفنية ما تزل في حيز " التأسيس " خلا بعض الأعمال، أم أن لكم رأياً آخر؟

ج3ـ نعم! أنا من جيل التجريب، إلا أنني كافحت طويلاً لامتلاك معلمية كتابة الرواية، وقد امتلكتها وانتصرت، وأفدت من منجز الغرب، غير أنني نأيت بنفسي عن تقليد الصرعات الأدبية المتناثرة كقشور الشعير عند التذرية، في هذا الغرب، وأفهم، وحتى أحسن، الغرائبية في هذه الصرعات، وقد أستخدمها في المكان المناسب، والزمن المناسب، دون أن ألجأ إليها لإدهاش القارئ، كما يفعل هذا أو ذاك، وبقسر غير مبرر.

من قال إن الرواية العربية في " حيز التأسيس " بعد؟ الآخر؟ اسمح لي أن أصارحه بأنه غير متابع للرواية العربية بالشكل المطلوب.

س4: إلى أي حد يمكننا اعتبار " رقصة الخنجر " نوعاً من أنواع إثبات الوجود؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الرقصة امتحاناً لعلاقة الولد بأبيه؟ وهل يمكننا إيجاد رابط ما بين هذه الرقصة الشعبية، وبين الثورة على الظلم والفساد؟

ج4 ـ رقصة الخنجر في روايتي " الشمس في يوم غائم " هي ضد الظلم والفساد تماماً، وقد دق الراقص بقدميه الأرض " ابنة الكلب النائمة " كي تستيقظ، على نحو ما علمه المحرّض الثوري عازف العود، ولا علاقة لها بإثبات الوجود، أو امتحان للعلاقة بين الفتى الراقص وأبيه، إلا من حيث أن هذا الأب يسكن القصور، وأن ابنه الذي علمه الخياط أن ينحاز إلى ساكني الأكواخ، وأن يعبر عن ذلك بدق الأرض النائمة وقد فعل، وفي ختام الرواية يتضح أن الابن، التنين الصغير، لم يستطع مقاومة والده، التنين الكبير، وانهزم أمامه في المواجهة، فسقطت الظلمة بينهما.
إن هذه الرواية، التي تلعب فيها الأسطورة دوراً أساسياً، أكبر من أن تلخص أحداثها، ومدلولاتها، ونتائجها، في مقابلة صحفية، وقد كتبت الرواية وهزيمة حزيران 1967 تمضغها الأفواه، ومن العنوان الذي هو نبوءة، يتبين أن الشمس، التي هي في يوم غائم، سينقشع عنها الغيم، وتعود إلى السطوع، وهذا ما حدث فعلاً في حرب تشرين 1973 ، الحرب المجيدة التي كان فيها النصر مضموناً للعرب، لولا ثغرة الدفرسوار في الجبهة الجنوبية، وخيانة السادات الذي اعترف أنه أراد من هذه الحرب " تحريكاً لا تحريراً "، لذلك أوقف متعمداً القوات المصرية البطلة، التي حطمت خط بارليف الإسرائيلي، عن الزحف لتحرير سيناء كلها، وقد أفادت إسرائيل من هذا التوقف، فسحبت دباباتها ومدرعاتها من الجبهة الجنوبية، وزجت بها في الجبهة الشمالية ضد سوريا، التي اجتازت قواتها، ببطولة نادرة، الخندق الإسرائيلي وحررت، بما يشبه المعجزة، مرصد جبل الشيخ، ووصلت إلى بحيرة طبريا، وهذا كله مفصل، وبتوثيق، في روايتي المرصد.
نعود إلى رقصة الخنجر، ودق الأرض النائمة لتستيقظ، وإلى شاعرية رواية " الشمس في يوم غائم " التي بهرت النقاد، لنخلص إلى توفر مقوماتها الناجحة، التي لخصها إيليا اهرنبورغ بالخصائص الأربع التالية: 1 ـ أن يكتب العمل الأدبي بطريقة يتضح فيها الاندماج العاطفي الحار، 2 ـ أن يكون موضوع العمل غير ماثل في وعي الناس، 3 ـ أن يصف الكاتب الإنسان الواقعي الذي يجوز عليه الخطأ والصواب، 4 ـ أن يكتشف الأديب آفاقاً جديدة من ناحية الشكل الفني.
س5 ـ في " الربيع والخريف " خروج على المألوف الروائي العربي في النظرة إلى الآخر الأوربي الغربي حيث العلاقة بين شرق وغرب، بينما هنا، في الرواية المشار إليها، فالعلاقة بين شرق عربي وشرق أوربي لم يستعمر بلداً عربياً ولكنه يظل أوربياً. كيف ينظر حنا مينه إلى هذه العلاقة؟

ج5 ـ نظرة طبيعية غير مسبوقة، فمع أن المجر، مسرح رواية " الربيع والخريف " بلد أوربي، إلا أنه، كما تقول، غير مستعمر، بل هو، كما البلدان الاشتراكية سابقاً، وقف مع حركة التحرر العربية، وساعدها، مادياً ومعنوياً، للتخلص من الاستعمار.

س6 ـ وهل يمكننا اعتبار " كرم " في الرواية نفسها امتداداً لـ " فياض " في الثلج يأتي من النافذة " وهل هما " ظلا " حنا مينه؟

ج6 ـ لا! كرم في " الربيع والخريف " غير فياض في " الثلج يأتي من النافذة " وكلا البطلين غيري.. وقد كتب توماس مان، الأديب الألماني المقاوم للنازية، حول موضوع البطل والمؤلف، والخلط بينهما قائلاً: " إحذروا هذا التأويل، إحذروا مثل هذه الفضائح، في أسئلتكم: من هو هذا البطل، ومن هي هذه البطلة؟ "

س7 ـ ظل البحر مكاناً مفضلاً لديكم، هل يعود هذا إلى الحميمية بين المؤلف والمكان بفعل النشأة وبالتالي الإخلاص لمفرداته؟

ج7 ـ البحر، دون تشوف، هو أنا في سكينته وفي عصفه، وهو أنا في وداعته وشراسته، وكذلك في كرمه الذي يأبى المقابل، وفي عطائه الذي لا ينتظر الشكر من أحد، فالذي يعطي ويرجو شيئاً مقابل عطائه نذل، والذي من شيمه الكرم، ويتوقع جزاء من وراء هذه الشيمة فاسد، وقد قال شوقي بغدادي في إحدى قصائده: " وطني أحبك، لا ليرفعني حبي، ولكن تغلب الشيم " .
وكتب ستاندال، صاحب رواية " الأسود والأحمر " الشهيرة في القرن التاسع عشر، في كتابه " مذكرات سائح " ما يلي: " إن الإقامة على شاطئ البحر تقضي على الصغائر، والحديث إلى بحار، عائد من رحلة، أكثر فطنة من الحديث مع كاتب عقود مدينة بورغ! "
ماء البحر المالح، هو العبرات في عيون اليتامى، هذه التي تكون مالحة إلى حد لا يصدق، وهذا الماء المالح، هو دمي الذي يجري في شراييني، وقد أحببت البحر إلى درجة الجنون، وأحبني هو أيضاَ، وفي لجته تعمّدت لا في نهر الأردن، وأمام مداه اللامتناه، أقف متأملاً خاشعاً، ذاهباً إلى ما وراء الأفق، حيث تشرق الشمس أو تغيب، كل صباح وكل مساء، تداعبني أمنية أن أرحل، على متنه، فوق طوافة من خشب، تأخذني بعيداً، بعيداً، إلى عوالم مجهولة، قد لا أعود منها أبداً.
لقد كان نهر السين، عند موباسان، قطعة من البحر، وكان يقول: " إني أجذف وأستحم، وأستحم وأجذف في هذا البحر، وإن عروقي يجري فيها دم الجائلين فيه، وأبهج ما يبهجني بقاربي ذات صباح ربيعي إلى موانئ غير معروفة "
تريدون معرفة البحر؟ ابحثوا عنها في رواياتي، لا في الأدب العربي القديم أو في الأدب العربي الحديث، فهما، قديماً وحديثاً، ليس فيهما ما يسمى " أدب بحر " . معي وحدي كان البحر بحراً، في ثماني روايات عن هذا الأزرق الواسع، لذلك أسموني " أديب البحر " وأنا كذلك، شاء الحساد أو كرهوا!
س8 ـ الماضي عند حنا مينه منهل أساسي، بل إن القارئ لرواياته يجد البحر كما، اليابسة، له ماض وحاضر. مياه جرت على سطحها أحداث تاريخية كثيرة. كل هذا نجده بين سطوره، وفوق مراكبه. والزمن هذا السادر كالبحر لا يأبه بالبشر. كيف تعاملتم مع هذا البعد، الزمن، وأنتم الكاتب الذي يصف نفسه بالواقعي.؟   
 
ج8 ـ تعاملت على النحو الذي ينبغي، فالحاضر يصبح ماضياً في لحظة تماماً، والرواية ليست قصيدة هي بنت انفعالها الآني، وليست قصة تأخذ من اللحظة المأزومة لقطتها المفردة، الرواية نتاج الماضي مهما يكن راهناً، وهي تحتاج إلى التخمر والنضج في الذات الإبداعية، قبل أن تصبح حياة مرسومة بالكلمات.

أما الزمن فإنه محور مركزي في الرواية، بسبب من أن الرواية لا تتشكل في فراغ، وإنما في مكان محدد، له، ومعه، زمن محدد أيضاً، وهذا كله من البدهيات، ما دامت الأشياء، فلسفياً، ليست متراكمة بل مترابطة، وترابطها له امتداد في المكان والزمان معاً، وفي رواياتي، وبشكل جلي، يتعانق المكان والزمان عناقاً اتحادياً في نمو السياق والشخصيات، ويصبح الماضي، مع هذا الاتحاد المكاني الزمني، حاضراً بالضرورة، مع نقطة مهمة، معروفة، مفادها أن الماضي في العمل الإبداعي، غير الماضي في التفكير، وبالنسبة لي فإنني أكتب عن الماضي دون أن أكون ماضوي التفكير، وهنا الفارق المهم، بين كاتب يتناول الحاضر بفكر ماضوي، وكاتب يتناول الماضي بفكر تقدمي، وتقدميتي تتجلى في كل أعمالي بامتياز، وليست بحاجة لشهادة من أحد.

وهذا الزمن الذي تسأل عنه، له وجودات ودلالات متعددة، إنه، مثل المكان، سجن للشخصية الروائية لا انفكاك منه، وهذا ما يراه، ويؤكد عليه هانز ميرهوف، في كتابه " الزمن في الأدب" ترجمة د. سعد رزوق.

" إن الزمن وسيط الرواية ـ يقول ميرهوف ـ والحياة الإنسانية تعاش في ظل الزمن، على أن الواقع التام يجري تصوره، بثبات، على أنه ما وراء الزمان وخارجه، لذلك لا تتحقق الحياة المثلى إلا في التحرر من عبودية الزمان.

ويبقى السؤال: هل التحرر من عبودية الزمان ممكنة؟ وفي الجواب أقول: كلا، لأن الحياة البشرية تخضع لكتلة الزمن في سيلانها الأزلي الأبدي.

س9 ـ يميز جورج طرابيشي بين نوعين من الرواية عند حنا مينه، إن جغز التعبير " المصابيح الزرق، الثلج يأتي من النافذة، الشراع والعاصفة، " و " حكاية بحار، الشمس في يوم غائم، الياطر " ويقول " نسبة الروايات الأولى إلى الروايات الثانية أشبه بنسبة ما قبل التاريخ إلى التاريخ " ككيف تنظرون إلى هذا الفصل بين جيلين من الرواية عندكم؟

ج9 ـ إنني معجب بجورج طرابيشي، ذي الثقافة الموسوعية، تراثاً ومعاصرة، وقد أخضع رواياتي لمنطقه الفرويدي في كتابه " الرجولة وأيديولوجية الرجولة " وكلامه على " عبادة الرجولة " عندي، لكنني لست مع هذا التقسيم الجائر لرواياتي!
يبدو أنه لم يقرأ " الفم الكرزي " و " حارة الشحادين " و " صراع امرأتين " وهي من رواياتي الأخيرة، لذلك أعذره.
س10ـ تقول في كتابك " هواجس في التجربة الروائية " " ما عدا المصابيح الزرق ليس هناك أية أفكار تثقل أيما رواية ." و مع ذلك فأنت تنطلق من أيديولوجيا معينة، منحت أغلبية أبطالك روحها. كيف تشرح هذا؟

ج10 ـ لا يخلو أيما كتاب من الأيديولوجيا، و هذا مفروغ منه، وما تبقى كيف نتعامل إبداعياً مع هذه الأيديولوجيا؟ نسقطها إسقاطاً؟ نمرغ بها الحدث تمريغا؟ أم تأتي في السياق، كنسيج مستتر فيه؟ هذه هي المسألة، وكل ما عداها هراء.

س11 ـ ثمة بعض التشابه بين شخصيتي  " زكريا المرسنلي" في " الياطر " و " مفيد الوحش " في " نهاية رجل شجاع " . إلى جانب بعض الملامح المشتركة لهما مع شخصيات أخرى مبثوثة في رواياتك. هل مرد هذا التشابه إلى مقولة " البطل الإيجابي"، وبالتالي فإن أبطالك يحملون نطفة الخير ليزرعوها في تربة البلاد التي هم فيها، أم أن الأمر على نحو آخر؟

ج11 ـ لا تشابه، ولا بطولة، إيجابية، أنا مع البطل الشعبي الواضح في رواياتي، دون أن آبه بكل هذه السفسطة حول مقولة " البطل الإيجابي " التي تلفت من كثر ما لاكتها الألسن.

س12 ـ من إهاب ثورة 1917 خرج مفهوم " الواقعية الاشتراكية " وتبلور مع مكسيم غوركي. الآن وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، هل يمكن أن نشهد توطيداً لمفاهيم من مثل " الواقعية السحرية " وأخرى تنبثق من إهاب ما يطلق عليه اليوم " صراع الحضارات " وكيف يمكن للرواية كفن أن تتعامل مع العالم اليوم؟

ج12 ـ لا! هذا خطأ، الواقعية الاشتراكية لم تخرج من إهاب ثورة أكتوبر 1917 .. إنها موجودة قبل هذه الثورة بزمن غير قصير، وكل ما فعله مكسيم غوركي، يتأطر في تبنيها، كشعار يكتشف البعد الثالث فيه، أي البعد المستقبلي، بعد أن كانت الواقعية، بكل أنواعها، ذات بعدين، هما الماضي والحاضر، ومن يرغب بالمزيد فليقرأ كتاب " الواقعية الاشتراكية " لمؤلفه س . غروموف، ترجمة الأستاذ عدنان مدانات، حيث يؤكد غروموف : " إن الواقعية الاشتراكية نشأت في الأدب الروسي قبل انتصار ثورة أكتوبر.. وقد برزت الخواص الرئيسية للواقعية الاشتراكية، وفكرتها المجددة، في متحف كامل من نماذج الأبطال الإيجابيين، لذلك أطلق عليها، آنذاك، الواقعية البطولية "
أحسب أننا شبعنا من التسميات واشتقاقاتها، ولا حاجة بي إلى الواقعية السحرية أو " صراع الحضارات " كما تقترح.. إن تعامل الرواية مع العالم اليوم سيتم في حينه، ووفق منطق الأشياء المستجدة في هذا العالم، إنما بمنظور تقدمي، فالأدب الإبداعي، الصادق، كان تقدمياً على الدوام.

س13 ـ لا يجد المتابع اليوم أسماء هامة في القصة القصيرة، كتلك التي قرأنا لها من مثل يوسف إدريس وعبد السلام العجيلي، وإسماعيل فهد إسماعيل، على سبيل المثال لا الحصر. هل يعود السبب إلى خيبة هذا الفن المراوغ في الإحاطة بمتطلبات العصر، أم أن العلة في الذين يكتبون القصة؟

ج13 ـ أحيلك إلى كتابي " القصة القصيرة والدلالة الفكرية " ففيه تجد الجواب. وهذا الكتاب، على تواضعه، نفد بسرعة غير متوقعة، وليس لدي، أنا مؤلفه، نسخة واحدة منه، وسيعاد طبعه في المستقبل، وفي " دار الآداب" على الأرجح، لأن الطبعة الأولى كانت في سلسلة كتاب "الرياض" التي نشرت حلقاته على صفحاتها، وكان من حقها أن تنشره أولاً.

وبهذه المناسبة، أجد سعادة في توجيه تحياتي القلبية الحارة، إلى جميع الزملاء من كتاب القصة القصيرة الذين ذكرت أسماءهم، مع إعجابي بإنجازاتهم الإبداعية ذات الشهرة الواسعة، وإذا كان القراء يفتقدون أمثالهم اليوم، فمرد ذلك إلى طغيان الرواية على القصة القصيرة من جهة، وظهور المبدعين ليس دورياً من جهة ثانية. 




حنا مينه اهم روائي سوري ...يبيع تحفه الأثرية ليعيش؟
عبد الرزاق ذياب

قاسيون

لأسباب خاصة أرغب في بيع التحف الأثرية الصينية التي أملكها، وبالسعر الملائم. العنوان برزة مسبق الصنع - المرحلة الرابعة على اليمين- خزان الكهرباء مباشرة- بناء 47 الطابق الأول حنا مينه 25/10/2009.
الإعلان كما نشرته صحيفة تشرين الحكومية في بحر الأسبوع الماضي، وأعتقد أنه مر مرور الكرام على وسطنا الثقافي والإعلامي، وربما اعتقد البعض أن الأمر مجرد تشابه بالأسماء بين المعلن والروائي الكبير حنا مينه.
لا أدري بالضبط ماهي الأسباب الخاصة التي أدت لأن يعلن حنا مينه عن بيع مقتنياته الأثرية، وهي تشكل ذكرياته وتاريخ رحلته في الحياة والأدب، أن يعلن حنا مينه أو أي مبدع سواه عن بيع تحفة أو قطعة أثرية أو حتى كتاب حوته مكتبته ذات يوم هذا يعني أن العالم آخذ بالخراب الذي اقتربنا من بشائره.
ترى ما الذي يجبر رجلاً كبيراً كـ (مينه) ينام على ما يقارب القرن من العمر على أمر كهذا، رجل ينام على كومة من الروايات والذكريات، ينهض معه كلما استيقظ صباحاً وطن من هلع وبحر وموت وضحكات ونساء وثورات، وطن غارق بالأحداث والتقلبات، وقهقهات الثملين عند البحر.
إعلان مينه شهادة صارخة على ترهل زمننا الثقافي، وتهلهل مؤسسات الثقافة التي لا دور لها ولا رائحة، ووصمة عار قد تلحق بنا جميعاً نحن الذين قرأناه، ورددنا عناوينه التي تشبه غروبنا الحالي، إعلان مينه دليل يؤكد أن الغشاوة التي تغطي عيوننا اقتربت من العمى.
ليس ضرباً من الجنون، أو صفقة خاسرة، أو جمع أموال من أجل مشروع استثماري، وليس بطراً ذاك الذي أجبر مينه على عرض أجمل ما في بيته وأعزه للبيع، من المؤكد أن أمراً ليس بالعادي قد حدث، أن أمرا افتضح عجزنا، وتقصيرنا أفراداً ومؤسسات، فمن المعيب أن يصل اسم كحنا مينه إلى ما وصل إليه، وليس سهلاً عليه ذلك، ولكنه عصرنا الذي صغرت فيه القامات
حد التلاشي، وهانت رموزنا حد بيع كتبها وتحفها وذكرياتها.
حنا مينه أيها المحارب القديم..أشكو الثقافة وما آلت إليه إليك، فذات يوم وصف رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور حسين جمعة من انتقدوه وعلى صفحات جريدة يومية مستقلة بالكلاب، أنت الذي قلت يوم تأسيس هذا الاتحاد عندما طلب منكم ورقة لا حكم عليه(طوبى للخراف)، مراكزنا الثقافية يا سيدي متخصصة بدورات الكمبيوتر، وندواتها للمحاضر وأقاربه، وأمسياتها الشعرية للمناسبات والمعارف، وبعضها في المدن النائية تديرها شرطة البلديات، وبعضها غرفة واحدة لاستعمالات عدة.
مات المهرجان المسرحي الذي كنا ذات يوم ليس بالبعيد نتدافع على أبوابه، ومهرجان السينما تحول إلى كرنفال للقاء النجوم، وصالات السينما لنوم المسافر والطلاب الهاربون من المدرسة، والشواذ الحالمون بصيد ولد جميل.
أيها المحارب...راتبك التقاعدي لا يكفي ثمناً للدخان الذي تنفثه رئتيك، ولا لاصطفاف الزجاجات الفارغة من الثمل، ولا لخريف عمر.
ربما..هل أقول بعد عمر طويل..ستهرع وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب للمناداة بتسمية أحد شوارع اللاذقية باسم حنا مينه على اعتبارك ابناً لها..ربما سينتصب تمثال من الرخام وسط ساحة لتخليدك..ربما يكتب الشعراء المراثي، ويستجاب لوصيتك في أن لا يؤبنك أحد..سيؤبنك البحر..وعارنا.
ملحق: من وصية حنا مينه
أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب». ‏
لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.

 
الروائي حنا مينة من يتم إلى يتم

الألوان لا تعيد من رحل
٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٠

بقلم محاسن الحمصي
حين يرخي الحزن وشاحه على القلب، ويصب نهراً في الشرايين، وحين ينطفئ فتيل سراج أيامك، وتذوب شمعة أضاءت دربك، ورافقت ظلمة لياليك، وتجد نفسك، فجأة ، وحيداً تلوح لرفيق غاب.. يعتصر نبضك الغضب ، ولا تملك إلا أحد أمرين ؛ إما أن تنزوي في زاوية وتنطوي على نفسك ، وإما أن تترجم هذا الغضب إلى عطاء وإبداع.

فراق، بُعد، وداع، لا يقاس بالمسافات، الأميال، الكيلومترات، بل هو الرحيل الأخير والمقام النهائي، والسكن الأبدي في سماء الله.. وحين تكون الشمعة رفيقة الدرب، وشريكة الحياة لشيخ الروائيين العرب والهرم التاريخي المبدع "حنّا مينه" لا تملك إلا أن تبكي بلا دموع. هذا حالي عندما طرقت الباب لأقدم واجب العزاء، وهو الذي حرص على كتمان الأمر عني ، وأنا في إجازتي الطويلة في فرنسا. قبل أن أفرغ حقائبي ، اتصلت به أخبره بحضوري غداً لزيارته. وقبل أن أسأله ، قال بصوت خافت : «أم سعد رحلت..».

في اليوم التالي سافرت إلى دمشق. رهبة الهدوء والصمت أفزعتني و"أماني" تقودني إلى غرفة المكتب ، وهو نائم على الأريكة. هب لرؤيتي ، استقبلني بابتسامته الودودة، كلماته الرقيقة ، لباقته ، وهمس : "كانت تحبكِ". تجاهلت الكلمات الأخيرة ، وبي غصة ، ولأداري حزني ، أخذت أبحث معه في الغرفة عن "الروب" والمشط . لاح نشيطا ً، متورد الوجنتين ، تخلى عن العكاز، بدا وكأنه في الستين، لكن في عينيه الزرقاوين بحرا من الأحزان.

جلست أنتظره في الصالون لنشرب القهوة ، وأجول ببصري في أنحاء تلك الغرفة ، التي جمعتني مع أم سعد آخر مرة .. (أم سعد ) أصبحت بعيدة جداً، فقد دفنت في اللاذقية، لتعانق التراب الذي أحبته.. قال وهو يأخذ مقعده المعتاد ، سنذهب- أنا وأنت- بعد نصف ساعة لتقديم واجب عزاء لأحد الأصدقاء ، وسيكون هناك كتاب وأدباء تلتقين بهم ، وأضاف بنبرة ألم : "أراها في كل مكان، لا تغيب صورتها من أمامي ، عشرة أربعين عاماً.. تركتني، عشت طفولتي يتيماً ، وها أنا أعود إلى اليتم بعد رحيلها. طلبت أمس من بناتي خلع ملابس السواد ، لأن الحزن في القلب والألوان لن تعيد من رحل، وهذه عادة فرضتها التقاليد والعادات التي تأبى التطور".

لا أملك إلا الكلمات للتخفيف عنه :

الحزن يولد العطاء ، وأنت الكاتب المبدع، عليك أن تكتب أحزانك ومعاناتك على الورق. من قال لك أني لا أكتب..؟ لقد بدأت في كتابة رواية جديدة ، وأكتب مقالات وأدون وأشغل وقتي في ترتيب ملفاتي وأوراقي ، يساعدني صديقي الناقد السوري المعروف "عاطف بطرس". فقد اكتشفت أن لدي عشرات الكراتين من الملفات والعشرات من الأوراق المبعثرة ، أهملتها وركنتها فترة طويلة .
-
هل ستذهبين معي؟
-
أعفني من هذا المشوار، فأنا غير مستعدة، وعلي أن أذهب مبكرة، فعرس ابن خالي الليلة، ويجب أن أكون موجودة.
-
دائما تأتين مسرعة والتزاماتك عديدة، وأنا أدعوك إلى الذهاب معي الآن ، وبعدها نذهب (للجرجانية) لتناول العشاء ولا أريد اعتذاراً.
-
أود من كل قلبي أن أرافقك لكني لا أستطيع.
-
أذهب نصف ساعة للعزاء، وتنتظرين عودتي لنتحدث، يكفي أن أماني أعدت لك الغذاء، ولم تحضري ، فتناولته بارداً وحدي. سيحضر "الفيلسوف" بعد قليل ليرافقني. علي أن أرتدي ملابسي.

يعاملني وكأنني فرد من الأسرة، وابنة له لذا يتصرف معي بحرية وتلقائية، يحدثني بكل ما يجول في ذهنه ولا يحاول التصنع أو التكلف أمامي، وهذا ما يجعلني أشعر باطمئنان وأني موضع ثقة. يرتدي بذلة مع بلوزة صوفية سوداء، فيبدو بكامل أناقته، ولأن الطقس بارد يضع الـبريه على رأسه، ويلف اللفحة حول عنقه. يلتفت إلي، وهو خارج : "إياك أن تذهبي. انتظريني".
حنا مينة والقرآن الكريم :

أتبادل الحديث مع أماني وأقدم لها بعض الهدايا ثم أتصل بابنته سوسن لأعزيها، ويمضي الوقت و(أماني ) تحدثني عن بيتها في إثيوبيا بلكنة شامية محببة ، وعن أم سعد و البيت الخاوي ، وعن الأستاذ حين يصلي ليلا من أجلها. لم أحاول استمالتها أو استدراجها لمعرفة المزيد عن الأحداث اليومية، فهي أمينة وصادقة ، وتحترم الأستاذ وتحافظ على أسرار بيته.

لم أكن أفكر في كتابة هذا اللقاء، وما دار من أحاديث مطولة مع الأستاذ فقد سبق وقررت الخروج من جلباب الكتابة عنه ، لكن رأيت أن القارئ، الذي يعتبره "حنا مينه" الجائزة الكبرى التي حصل عليها في حياته، يحق له المزيد من الاطلاع على جوانب إنسانية، ثقافية، وحياتية لهذا الهرم التاريخي والقاموس اللغوي الذي اكتشفت أنه يحفظ القرآن الكريم كله، والأحاديث الشريفة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكنه أن يعطيك الآية والرقم ومن أي سورة، وإن كانت مكية أو مدنية، فضلا عن الكم الهائل من الأبيات والقصائد والذكريات التي لا تنضب، ومتابعة الأحداث المستجدة على الساحة الأدبية والسياسية في عالمنا العربي والغربي.
ترى لماذا أراد بيع مقتنياته وتحفه الأثرية؟
ليس في حاجة إلى الأموال، وهو يعيش في بساطة، ولا ينظر إلى الحياة من منظور مادي، فقد عاش العمر الطويل يسافر ويقيم في أفخم الفنادق، ولم تبق أية دولة في العالم إلا وكان بها موضع تكريم وترحاب، رغم الشائعات التي طالته بأنه يطلب مبالغ خيالية لإجراء مقابلة أو تنفيذ مسلسل لإحدى روايته، وأعلم أن هناك بيوتاً مستورة عديدة تعتاش على مساعدته ورعايته وفي داخله يسكن إحساس الانتماء لتلك الطبقة المعدومة والمغيبة ، والتعاطف معها ومساعدتها بطرق عدة ..

فقرة من روايته (حمامة زرقاء في السحب ) والتي كتبها في رحيل ابنته الاثيرة لديه تجول في ذهني وتحملني للغوص في شخصية هذا الرجل ، وأنا انظر الى تمثاله البرونزي وعليه اهداء من الدولة .. فالوصف فيها مازال ينطبق على هذا الرجل الصلب رغم كل ما عانى ويعاني يكتب : " كان متمرسا بمثل هذا الهبوط النفسي ، فقد عرفه كثيرا في حياته ، وارتفع عليه كثيرا ايضا. كان يقول إنني أيأس في المساء ، لأعود الى التفاؤل في الصباح ، خائر القوى ، حينا ، ثم أنتفض فإذا أنا قوي العزيمة حينا آخر ، لقد عالجت نفسي بنفسي بأكثر مما عالجني الأطباء ، والأدوية ، لحظة القوة في ذاتي ، أقوى من لحظة الضعف ، وهذا الذي انتابني مساء أمس ، كان ضعفا طارئا اغتالني ، أو حاول إغتيالي ، فلم يفلح كعادته ، وها انا من جديد أغتاله ، أنفيه ، أبدده ، كما يتبدد الظلام ، أمام نور ينبلج عن صباح يحمل بين جناحيه الهدوء والسكينة " .

سر إعلان بيع التحف :

دخل مسرعاً بعد ساعة، طلب قهوة ووصف لي أزمة السير الخانقة وقلة مواقف السيارات في شوارع دمشق القديمة. بادرته :
-
لماذا أعلنت عن بيع التحف ، فقد أثار الإعلان موجة من الشائعات والأقاويل؟
-
هي مقتنياتي، تحفي ، ممتلكاتي ، ومن حقي التصرف بها كيفما شئت ، لماذا أبقيها موقوفة؟ لكن البعض فسر البيع على أن "حنا مينه" يريد الهجرة من سوريا والسكن في الخارج، وأنا لم أفكر يوماً بترك بلدي ، جذوري. بها ، قدمي تنغرس في ترابها.. عمري كله قضيته فيها ولها، في أفراحي وأحزاني ، فقري وغناي ، تعبي وشقائي، بداياتي، كتاباتي، شهرتي.. فهل أتخلى عن هواء أتنفس به ومنه ؟ سوريا كرمتني ، منحتني الجوائز والألقاب ، وأفخر بذلك ، ورغم وجود الكثير من مجريات الأمور التي لا أستسيغها ولا أتقبلها إلا أنني وفيّ لهذا البلد. ومن يقول إني أعرض تحفي للبيع من أجل المال.. له ذلك ولن أعلق أكثر.

القارئ جائزة الكاتب:

يتشعب الحديث بيننا، فنتطرق إلى جائزة البوكر الأخيرة، وفوز الكاتب السعودي عبده خال بروايته "ترمي بشرر" :
-
الجائزة في لحظتها تكون جميلة، تفرح الكاتب وتمنحه شهادة دخول إلى عالم الأدب من بابه الأوسع، لكن كما قلت لكِ في أحاديث سابقة إن جائزة الكاتب الوحيدة هي القارئ، وهي التي تخلد اسمه وتبقيه في دنيا الأدب، وتدفعه إلى العطاء الدائم، ومبيعات الرواية دليل على وجود ذلك القارئ المهتم والمتابع. انظري إلى رواياتي، هي حتى الآن الأكثر مبيعاً، وأحياناً تعاد طباعتها، نظراً للإقبال المتزايد عليها، ليس غروراً، ولكن لوجود قارئ متذوق.
-
ما رأيك في تكريم الفنانة الكبيرة منى واصف من قبل الرئيس بشار الأسد وإقامة معرض فني يضم لوحات شارك بها رسامون من كافة أنحاء سوريا، وكل لوحة من مشهد مسلسل أو فيلم أو مسرحية لها عربون تقدير؟
-
منى واصف حبيبتي وروحي، أعزها من أعماق قلبي. فنانة عظيمة تستحق التقدير والتكريم، مثلت العديد من أعمالي التي حولت للسينما والتلفزيون. أعظم من مثلت على خشبة المسرح السوري ، وهي فنانة عالمية، اتصلت بها هاتفياً في العاشرة مساء أقول مبروك ..مبروك حبييتي. أهنئها، وأفرح دوماً لنجاحها وتألقها. لا أدري كيف عاد بنا الحديث إلى أجواء الحزن والموت ..!
الماغوط يسرق الدموع

-
اتصلت بالكاتبة العظيمة كوليت خوري أعزيها بوفاة ابنتها، وأعتذر لتأخري في التعزية. كنت مريضاً، ولم أستطع الحضور للتعزية. قالت : تعزيتك ملأت قلبي سكينة..

-
حين تذكر الكاتب والمبدع الراحل محمد الماغوط طفرت الدموع من عينيه، وهو يروي قصة رحيله بطريقة أبكتني معه:

-
حبيبي وصديقي وأخي الكبير والصغير محمد الماغوط، سميه ماشئت، بالنسبة لي . محمد الماغوط… لم يبق أحد وعلى مدى أسابيع بعد رحيله إلا وعدد مناقبه ،هو كاتب عظيم لا يعوض ، فقد تـُرجم له عشرون عملا إلى لغات عدة. حاربوه حين قرر أخذ جائزة العويس، والآن بدأ البعض يوجه الاتهام له بأنه وضع زوجته "سنية الصالح" في الظل. الشاعرة سنية صالح (توفيت بمرض السرطان عام 1985) صاحبة ديوان " ذكر الورد"، الذي صدر بعد وفاتها بثلاث سنوات، وكان ديوانها الاول "الزمن الضيق" قد صدر عام 1964 وعمرها 29 سنة، وهي شاعرة متميزة لم تأخذ حقها في الشهرة لا في حياتها ولا بعد مماتها! هن سبع بنات أختها الكاتبة والمترجمة والناقدة خالدة سعيد، والممثلة مها الصالح، وبذا يكون محمد الماغوط عديل الشاعر علي أحمد سعيد "أدونيس"، والممثل السوري القدير أسعد فضة. لم يتزوج بعد وفاتها، واعتنى بابنتيه منها حتى مماته.

يقول الأستاذ : كان محمد يحب النكتة، وقد زرته في مشفى العباسيين قبل وفاته، أحمل له كتاباً، أراد أن يقبلني دون طقم الأسنان، فقلت له خذ الكتاب ولا أريد القبلة. كان يرتدي تي شيرت بيضاء قابلني وهو يتحدث بصعوبة لأنه بلا طقم ، أراد أن يروي لي نكتة، قلت له أجل النكته والسجائر والشرب، وسنلتقي في البيت. بعد يومين وفي الساعة الرابعة بعد الظهر، كنت نائماً، اتصلت بي صحفية من جريدة الحياة . نعم؟… محمد الماغوط مات.. أجهشت بالبكاء.. قالت: أستاذ حنا، دع البكاء جانباً، وحدثنا عن الماغوط فأنت أقرب الناس اليه.. رأيت في كلامها منطقاً، وتحدثت عنه مطولا. كان يقول : أيها الأدباء "حنا مينه" فوق، أصبح فوق، ولن تصلوا إليه بحسدكم وكلامكم. لن تصلوا إليه إلا إذا أصبحتم كتاباً مثله. رقم هاتفه على كل رواياتي وأوراقي ، وحين أراه أبكي، وأترحم على هذا الكاتب الرائع الذي أفتقده. أشعر من خلال بعض الحديث أنك مغرور و معجب بنفسك. يا ابنتي، الغرور له جوانب سلبية وإيجابية، كما الصدق والكذب والتواضع، لست مغروراً، ولكني أحترم "حنا مينه" العصامي والكاتب والانسان. هأنذا لم أتبدل أو تغيرني الشهرة ولا أدعي ما ليس بي.

فجأة يقول : يا ابنتي، من يشهر في وجهك السيف لا تقابليه بالتسامح، بل بارزيه بسيف. هذا الزمن لا يعرف الأخلاقيات والتسامح والمهادنة، هو زمن لم تعد تنفع فيه مقولة : "وإنما الأمم الأخلاق.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا " النفوس تغيرت، والمعاملة الإنسانية تحولت إلى مصالح وأهداف، وعلى الفرد أن يتطور مع هذا التحول، ويكون صلباً وقوياً كي لا تضيع حقوقه.

آخر اللحظات :

فنجان القهوة رقم … والوقت يمر. أنظر إلى الساعة، وبي رغبة لسماع المزيد من الحكايا والقصص وأبيات الشعر وعن الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح والكاتبة الكويتية ليلى العثمان وأسماء أدبية أخرى قد أعود لذكرها في مواضيع لاحقة، ووصف "سارة" الحفيدة المحببة إلى قلبه. أستاذ حنا ..؟! لا تكوني لطيفة جداً في سؤالك. ماذا تطلبين؟ هل لي بأخذ مقتطفات من الحديث الذي جرى في زيارتي ونشره ؟ لك مطلق الحرية في كتابة ما تشائين، ونشر ما تريدين عني، فأنا أحب أسلوبك في الكتابة.. سلسة، بسيطة، وأثق بك وبطريقتك في العرض، وأنا معجب بك، لأنك امرأة جسورة، جريئة ، متمردة، لا تستسلمين أمام الصعاب، لكن يبقى عيبك الطيبة والكرم الزائد. دائماً، شهادتك تزيدني تصميماً على السعي لأحقق ما بدأت، وكلماتك تعطيني دفعة أمل . هل تأذن لي بالذهاب الآن، وسأعود للزيارة مرة أخرى، وسأتصل بك؟ البيت بيتك، وأنت ابنتي ..هيا سأوصلك إلى حيث تريدين، أنا والفيلسوف.
والفيلسوف مرافق للأستاذ مثقف، ملم في السياسة، الأدب، الفن، ويحفظ عن ظهر قلب أسماء أبطال روايات الأستاذ، وكل ما يتعلق بها.
الحمد لله، أراك هذه المرة، وأنت في صحة جيدة وشباب دائم . لا تجامليني، أصبحت في الثامنة والثمانين، عمري ليس كما هو ابن الأربعين أو الخمسين.
نهبط الدرج معا، نركب السيارة، يضحك وهو يقول : حنا مينه يوصل محاسن إلى عقر دارها، لأني أخاف عليك كبناتي وأعتز بك . هذا شرف لي لن أنساه أبداً. نستمر في الحديث، أتناول من حقيبتي لوح شوكولاتة :
-
هذا من فرنسا، اقتسمه أنت والفيلسوف. لا أملك غيره الآن.

نصل إلى الجسر الأبيض، حيث أقيم. ينزل معي، يسلم علي.. أشكره على الزيارة وعلى تعامله اللطيف معي. ينتظر حتى أدخل باب العمارة، ألوح له مودعة، أنتظر السيارة وهي تبتعد بهذا الرجل الشامخ، المتواضع، الحزين الذي يرسم البسمة على الوجوه، وفي قلبه ألف غصة وألف ندبة من جراح الأيام، وهو ما زال قادراً على أن يعطي، يقدم، يخدم ويصر على البقاء شجاعاً حتى آخر العمر

 
حنا مينه: لا أعرف كيف جاءتني هذه الشهرة العالمية

الوطن هو الحب الأول والعشق الأول والوفاء الأول

حنا مينه: عشت في الخطأ وسأموت في الخطأ

الكفاح العربي
موسكو – حسين نصر الله
نتطلع إلى حنا مينه على انه الكاتب الأقدر على التعبير عن عذابه من بين غالبية الكتاب العرب، فهو المعذب النموذجي الذي وجد في آن معا أعمق مستوى من العذاب ووسيلة مهنية للتسامي بالمعنى الحرفي. انه يتعذب بصفته إنسانا، ويحول عذابه إلى فن بصفته كاتبا. انه الكاتب الذي يكتشف العذاب في تدبير الفن، تماما كما اكتشف القديسون فائدة العذاب وضرورته في تدبير الخلاص. ميزات مينه الأساسية بوصفه روائيا، هي الرهافة، والاختصار، والتحكم، والبساطة والعمق في آن معا، ويعزى ذلك إلى ان مواضيع أعماله تعمق إحساسنا بالواقع وتملك قدرة سحرية على إقناع القارئ. هذا الحوار معه، وهو في السادسة والثمانين مراجعة لمسيرته ولما قالته له الحياة، وهو اكثر من ممتع بالمعنى الادبي كما بالمعنى الانساني العميق.

إلى ماذا يحن حنا مينه اليوم إلى "المستنقع" ام إلى عمله في الميناء كحمال ام إلى البحار المغامر، ام انه بعد كل هذه السنوات استرخى إلى لقب كاتب؟
-
حنا مينه اشتغل صانعاً واشتغل بحاراً على المراكب الشراعية وعمل حلاقاً وحمالاً في الميناء، وعاش الحياة مغامرة، وقد كان ومازال حتى الآن، وفي هذا العمر المتقدم على موعد مع المغامرة. لقد عاش الحياة لأنها جديرة بأن تعاش، عاش مغامراً ولايزال. لم يكن حتى الأربعين من عمره يخطر على باله أنه سيكون كاتباً بهذه الشهرة. المغامرة جوهرةُ الحياة، تماماً كالمرأة التي هي جوهرة العيش، وقد قال الشاعر التركي ناظم حكمت "العيش جميلاً كان وسيبقى يا صديقي"، وعلى مدى هذا العمر المتقدم لم أسترخ ولا تزال في قلبي هذه المهنة الحزينة مهنة الكتابة، التي هي مهنة جميلة ورذيلة ولا انفكاك منها إلا بالموت.
في شبابك لم تأنس إلى إقامة محددة، لقد عشقت الترحال، بيروت، الإسكندرية وصولاً إلى الصين. ماذا تقول لك أسفارك الآن، أم أن الترحال وطن ؟
-
حنا مينه كما هو معروف عاش في الخطأ، وكتب في الخطأ، وربما سيموت أيضاً في الخطأ. وله أمنية واحدة أن يموت في البحر أو على مقربة منه. عرفت الحياة بأربع جهاتها. تغديت في الوقت المناسب في معامل " تويوتا " التي تعاني الآن من مشاكل، وبعد سنة أو سنتين كان لي حظ العشاء في المكسيك. أما أميركا فإنني لم ادخلها. وصلت إلى نيويورك وخضعت كعربي (والعرب متهمون بالإرهاب) إلى تفتيش دقيق في ثيابي وفي جسدي. فأدرت ظهري لنيويورك وأميركا كلها وعدت سالماً سعيداً، لأني اكتفيت من هذه المغامرة بالاياب.
حنا مينه هو البحر، والبحر هو حنا مينه، وكلاهما وفيّ لصاحبه. إلا أن تقدم العمر جعلني أودع البحر قبل عشر سنين. وعن هذا الوداع كتبت روايتي "الرحيل عند الغروب". الوطن هو الحب الأول والعشق الأول والوفاء الأول، وأنا نبتة في هذا الوطن، وإذا قُلِعتُ من تربته متُّ كما هو شأن كل نبتةٍ تقتلع من ترابها.
عملت في الصخب الحزبي لفترة من شبابك، ثم غادرت دروب النضال الوعرة، تاركاً الإيديولوجيات لغيرك. لماذا هذا التخلي عن الانتماء، مع العلم أنك في كتاباتك من أكثر الكتاب العرب المنحازين إلى الطبقة العاملة إذا جاز التعبير؟
-
مارست السياسة، أو فَرَضَ عليّ الزمان أن أعمل في السياسة ولم أبلغ السابعةً عشر من عمري. وكافحتُ دفاعاً طويلاً وشاقاً في سبيل العدالة الاجتماعية، إذا ما تركنا كلمة الاشتراكية جانباً لأنني كنت في الصين وأدركت حكمة الصينيين التي تتجلى الآن في العودة إلى المرحلة الرأسمالية حتى لا يكون قفز عليها بل انهار بسببها كما حدث في "الاتحاد السوفياتي". أما أنني من أكثر الكتاب انحيازاً إلى الطبقة العاملة فهذا قول صحيح، لكن لا فضل لي فيه لإنني وأنا فقير بالغ الفقر في حياتي كان لا بد لي من السير في هذا الطريق الذي مشيت فيه حافياً في حقل من المسامير تاركاً في كل موطئ قدم نقطة من دمي.
وماذا عن "المستنقع" أم أن الحياة كفيلة بمحو العاتم في الطفولة والشاحب في الأمكنة؟
-
حياة الأمة العربية الآن مع الأسف في ما يشبه المستنقع إنها في جزر وإذا أتى المد المنتظر بعد مئة عام نكون من المحظوظين في حدود رأيي.
لقد خبرت الأشياء الأليفة في المكان والزمان، كيف تقارب هذه الصداقة المفروضة عليك... المنزل، السرير، النافذة، وغير ذلك من الأشياء والوجوه التي تدور حولك؟
-
نعم خبرت المكان والزمان بحكم حبي للحياة ومغامراتي المتواصلة فيها، المغامرة التي فُرضت علي ولم تزل. لكنني لست أليفا مع المنزل والسرير والنافذة، وهذه الألفة في رأيي هي المألوف في الحياة. وأنا أدعو إلى اختراق هذا المألوف، وإلى قتل العادية بغير رحمة. وإلى التخلي عن آفة العقل التي هي من مفاخر رجال السياسة عندنا. وسبب ما نحن فيه من وضع لا نحسد عليه هو هذا العقل، وقد كان عندنا زعيم واحد مجنون، فتعقل الآن. وليته لم يتعقل. فالعقل الذي اعتبره أبو العلاء المعري إماماً هو بليّة الوطن العربي. فنحن في الوطن العربي الكبير كلنا عقلاء، ونفاخر بأننا عقلاء، وهذه هي البليّة. فليت المسؤولين العرب يميلون إلى الجنون قليلاً، أو يتبعونني على الطريق غير المستقيم. الطريق الذي أقول عنه أنا "نصف مجنون، نصف عاقل" وأفضل نصفي المجنون على نصفي العاقل. وهذا الجنون مع الحظ هو مصدر شهرتي الكبيرة. أعرف تماماً أنني بدأت الكتابة في الأربعين من عمري، ولكنني لا أعرف كيف جاءتني هذه الشهرة العالمية التي أنا على يقين أن الحظ لعب دورا فيها.
لنتحدث قليلاً عن "المصابيح الزرق" عن الزوارق ورحلات الصيادين وشباكهم الفارغة، عن بحر اللاذقية الأليف والغريب في آن. ماذا عن تلك المرحلة ؟ وكيف تصف لنا الآن من معتزلك إذا جاز التعبير شباب البحر وأمواجه؟
-
تودون الحديث عن المصابيح الزرق، هذه التي هي المبتدأ والخبر في حياتي. أما الزوارق ورحلات الصيادين وشباكهم الفارغة، وبحر اللاذقية الأليف والغريب في أن هذه الأمور قد جرى الكلام عليها كثيراً وطويلاً ولا ضرورة للكلام عنها لأنها حبي الأول والأخير. وليس الأول لأنني وأنا حلاق كتبت مسرحية غيّرتُ فيها العالم في ستة أيام، وفي اليوم السابع استرحت. فقد ضاعت الآن وأنا غير نادم عليها.
لنتوقف قليلاً عند " حكاية بحار" ما الذي ترغب أن تضيفه على هذه الرواية اليوم؟
-
حكاية بحار هي أحب حكاياتي، وقد تُرجمت إلى اللغة الروسية، وأجمل ما فيها ليس الحدث أو المعالجة الناجمة، كما هو الرأي السائد بل أغنية "يا ماريا يا مسوْسحه القبطان والبحرية" التي كتبت عنها أكثر من خمسين صفحة في المدخل إلى عالم البحر وحكاياته.
من يقرأ لك يشعر أنك تعيش مشدوداً إلى العذاب، أو كأنك تنام على سرير من الشوك. ألم تسعفك الكتابة؟ ألم تكن ملاذاً، إذا لم نقل خلاصاً؟
-
لست مجنوناً للعذاب ولا مغرماً به، رغم أنني عانيت عقدة "تعذيب النفس" طويلاً حتى انتصرت عليها أو أكاد. أنا مع الفرح، إلا أن فرحنا في هذا الشرق قصير جداً، وحزننا طويل جداً، وحتى إذا ضحكنا، نخاف ونقول "إن شاء الله يكون هذا الضحك على خير".
دائماً كنت تتحدث عن إقامتك في الحياة كضيف ثقيل، إلى درجة أنك كنت تردد ما معناه "أهلا بالموت" هل نلمح في هذه الأقوال فعل الشهادة، أم رغبة في الانتحار؟
-
نعم أنا ضيف في هذه الحياة، وكلنا ضيوف في هذه الحياة، وقد قلت إنني لا أسكن إلا في بيت أبي، وليس لأبي بيت لا في البحر ولا في البر. أبي كان غريباً عجيباً رحمه الله، كان رخواً أمام العرق والمرأة. فلم يحصل على الاثنين، لكنه كان حليماً لا يمل الترحال. كأنما هناك شيء خفي يناديه إلى الرحيل، ولا أذكر أنه عاد من رحلاته إلا فارغ اليدين خائباً، لكنه وهذا ما أرجحه، قد أفاد من هذا الترحال الدائم، وعندما كنت يافعاً قال لي هذه الكلمة: "الدهر دولاب، لا عمّك ولا خالك" وليت الذين يريحون أقفيتهم على الأرائك، ورفاهية المناصب يدركون أن الدهر دولاب، وأن عليهم أن يكونوا مع الذين يؤمنون أن الشعب هو المصدر أولاً وأخيراً وأن "للظالم يوما وللمظلوم يومين".
ماذا عن الأصدقاء يا حنا، من تذكر منهم اليوم؟
-
ماذا عن الأصدقاء يا حنا ؟ وجوابي لماذا أفتح الجراح من جديد؟
أم كلثوم في قصيدة الأطلال للدكتور إبراهيم ناجي تغني هذين البيتين:
كلما التأم جرحٌ/ جد للتذكار جرحُ
فتعلّم كيف تنسى/ وتعلم كيف تمحو
والداعي في الصف الأول من مدرسة النسيان. وليس لي حكمة التنجيم، فالمنجمون كاذبون ولو صدقوا كما يقول الحديث الشريف. ولو أعددت أحبائي الذين سبقوني إلى الرحيل في عربة الموت لكان عليّ أن أبدأ ولا أنتهي، وأنا أشقى لأنني لا أستطيع البكاء عليهم واحداً واحداً وأكتفي بالحديث النبوي "أذكروا محاسن موتاكم".
وكما قال الشاعر بدوي الجبل:
نام عند الثرى أحباء قلبي/ فالثرى وحده الحبيب الخليل
يا رفاقي بكيت فيكم شبابي/ كل عيش بعد شبابٍ فضول
كتبت كثيراً عن الفقراء والمحرومين والمهانين، هل كنت تود أن تقول أنك منحاز إلى هذه الفئة من الناس؟
-
لقد كتبت كثيراً عن الفقراء والمحرومين، وفي جوابي أقول انا كتبت بذلك عن نفسي، وهل أحرم من الحديث عن نفسي؟ أنا الفقير بإذنه تعالى، والمحروم الأكبر بإذنه أيضاً، لكنني غير مهان كما في السؤال، حنا مينه له هذه المقولة. "ولدت كريماً وزكرتاً وسأموت كريماً وزكرتاً" وأسأل الله أن يساعدني على بقاء هامتي مرفوعة كما كان حالها على مدى عمري.
هل يعني هذا الكلام أن حنا مينه ملتزم سياسياً أم أن الايديولوجيا والأفكار الجاهزة لا تعنيه؟
-
وتسألونني هل حنا مينه ملتزم سياسياً وهذا السؤال غريب، لن أجيب عنه. فبعد كل هذا العمر وكل هذه المغامرات، لم يعرف الناس عني أنني ملتزم سياسياً؟ سياسياً لا حزبياً، الأحزاب لها تكتيكها، أما الكاتب فإنه لن يكون من أزلام أي سلطة في العالم وإلا مات وكان قلمه من الأقلام غير الشريفة كما هي حال اقلام المنافقين المتكاثرين أو الكثيرين هذه الأيام الرديئة، ذلك أن الرداءة والنفاق صار لهما ثقافة في حياتنا مع الأسف.
لنعد إلى "الشراع والعاصفة"، وبعد ذلك إلى "الياطر" التي أصبحت من اشهر رواياتك، لماذا لم تكمل الجزء الثاني منهما كما وعدت؟
-
الشراع والعاصفة. هذه الرواية هي التي عمدتني روائياً، والعماد لم يكن في نهر الأردن المبارك. بل في سهر الليالي على فوانيس فقيرة ناحلة كفقري ونحولي. أنا الذي ولدت نحيلا إلى درجة لم يصدق أحد أني سأعيش وأنني سأجن هذا الجنون المشهور به.
في ختام الحوار ما الذي ترغب في إضافته؟
-
أرغب في أن تتكرموا وتنقلوا تحياتي إلى الجاليات العربية في موسكو، التي أنتم رسلها الكرام إلي، لقد صار بيننا ماء وحديث وقهوة، وأرغب صادقاً أن يكون بيننا خبز وملح وعرق في الوقت الذي تريدون.
ما الذي قالته لك الحياة، أي وصية تتركها لأجيالك ولم تكتبها؟
-
قالت لي الحياة: لا تخف الحياة، وبذلك تجعل الحياة تخاف منك.
وماذا عن الحب يا حنا؟
-
المعروف أنني محروم من شيئين هما ملذات الدنيا، السُكر والحب، فأنا لم أسكر عمري كلها، ولم أحب عمري كلها، حتى كثر الحديث عني وعن الحب وصاح الكثير من قرائي هذه الصيحة: "حب وخلصنا من هذه المشكلة".

 
فى منزل صاحب  )المصابيح الزرق (
حنا مينه: لدى رغبة وحيدة أن أموت أو أجد من يقتلني
حاورته فى دمشق: سعاد جروس
٢٥ أيار (مايو) ٢٠٠٦

الطريق إلى منزل حنا مينه يتطلب صعود ما يشبه تلة. ثمة هواء نقي يشكل متنفسا لبحار الرواية السورية، وكأنه في ابتعاده عن مركز المدينة، يستعير بقعة فسيحة يرتاح فيها من الضجيج والتلوث، على طرف مساكن ( برزة ) .
منزل بسيط، يشبه إلى حد بعيد صاحبه، الذي أمضى عمره يكتب عن الفقراء والبحر. إلا أن بساطة حنا مينه ليست متأتية من فقر، فهو لا يفتأ يكرر جملته: «أربح الكثير وأصرف الكثير». ومن يطأ عتبة بابه، لا بد يدرك معنى هذه الكلمة، من حسن الاستقبال إلى كرم الضيافة.
( لا قيمة لشيء سوى الكلمة)، هكذا قال لنا حنا مينه حين احتد الحوار، ونحن نجالسه في مكتبه الصغير تتناثر حوله كتبه وحاجياته: «أهم شيء عندي الكلمة، أنا لم أكتب يوماً حرفاً لم اقتنع به، ولا أكتب للسلطة». عشقه للكلمة جعله يتأنق بها، فتدفقت في رواياته سلسلة، تؤدي رقصتها الشعرية برشاقة نادرة. كتب عن نفسه وعائلته التي تشردت من لواء اسكندرون.. عن والدته ماريانا ميخائيل زكور، قبل أن يمخر عباب الرواية مواجهاً عين العاصفة، أبطاله من لحم ودم، نراهم حيث تلفتنا؛ قبضايات وشجعان، فقراء المال وأغنياء النفس، بطلاته عاهرات الجسد عزيزات الروح. كتب عن العوالم السفلية للمرافئ ومدن الساحل المفتوحة على أهوال البحر، وانتقم لطفولته البائسة، ولأخواته الخادمات، انتقم للقهر والتشرد الذي لقيه في ميعة الصبا، لكنه انتقام المحب المتعاطف، لا الحاقد الناقم.
ها هو الآن يعيش سنته الثانية بعد الثمانين، ويقول وكأنه يتحدث عن شخص آخر: «حنا مينه، هذه الأيام، يتذكر ماضيه وأخواته». هذا الماضي يعرفه كل من قرأ رواياته التي سعى من خلالها إلى إبراز الوجه الإنساني في عوالم تنتهك فيها الحقوق الإنسانية وينحطّ البشر. هذا سر الشغف برواياته التي لا تزال على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً محلياً وعربياً. أكد مينه دائماً، وها هو يقول لنا من جديد، إنه مرتبط بعقد مع «دار الآداب»، ورواياته تدر عليه مالاً وفيراً، ينفقه بالكامل، ولا يحتاج إلى شيء سوى معرفة: «ما الذي أريده من الحياة؟! لغاية الآن لا أعرف ماذا أريد؟! رغم بلوغي أرذل العمر»، ويتابع «لدي رغبة وحيدة هي أن أموت أو أجد من يقتلني، وأنا مستعد لدفع نصف مليون ليرة سورية مكافأة لمن يقتلني». الأمر يبدو لنا عبثياً فنبدي استعدادنا لنشر إعلان يقول: «حنا مينه يبحث عن قاتل يخلصه من نفسه»، هذا إذا لم يتراجع عن رغبته. ينتفض حنا مينه ويغضب من قولتنا هذه ويجيب: ( حنا مينه لم ولن يتراجع أبداً عن كلمة يقولها ).
لم يتوقف حنا عن الكتابة، له في كل عام رواية جديدة، آخرها كان «الذئب الأسود». يأتي قراؤه بالعشرات إلى معرض الكتاب السنوي في دمشق ليحصلوا على رواية ممهورة بتوقيعه وبضع كلمات يعتبرونها أثمن ما تحتويه مكتباتهم، رغم ما يوجه إليه من نقد لاذع، حول تكرار نفسه في السنوات العشر الأخيرة. فمنذ بدأ العمر يتقدم به نحو العقد الثامن، لم تعد علاقته بالعالم الخارجي كما كانت، بات يمضي جل وقته في المنزل بعدما غادر عمله في وزارة الثقافة منذ عدة سنوات، عدا ظهر يوم الخميس حيث يقضي بضع ساعات في مقهى البرازيل بفندق الشام، يلتقي الأصدقاء والصحافيين الذين يستقبلهم في بيته أيضاً.
يحدثنا مينه عن صحافي نشر معه حواراً كاملاً، دون أن يلتقي به.. يضحك مستهزئاً: «أنا أتفهم لماذا يفعلون هذا، يعتقدون أنه لا بد له من إجراء حوار معي وحين لا أعطيهم حواراً، يجرونه وحدهم». نعلق منتهزين الفرصة: ( عندما ننشر حوارنا معك لا تقل إنك لا تعرفنا ). مع أن زيارتنا لشيخ الرواية لم تكن لغايات صحافية، لكن إغواء الكتابة عن عالم هذا المبدع يكاد لا يقاوم.
يتنهد قليلاً ويجيب واصفاً نفسه: حنا مينه طويل البال، عندما أصدرت دار الحوار للنشر كتاباً يقول إنني سرقت حكاية بحار، أشار علي الأصدقاء برفع دعوى قضائية، لم أفعل لأني طويل البال. هناك شاعر صرف خمساً وعشرين سنة وهو يشتمني، وعندما لم يجد فائدة من ذلك جاء الى في بيتي، فاستقبلته وقبلته. كانوا يقولون حنا كافر، وأنا أقول لا يوجد إنسان كافر، كل واحد يؤمن بشيء، الشيوعيون أيضاً لديهم قضية يؤمنون بها.
يرشف من فنجان القهوة ومن كأس بجوارها. لم يكن فنجان القهوة هو ذاته الذي أخبرنا في مرة سابقة أنه فنجان قهوة أمه الذي ما زال يحتفظ به منذ خمسين عاماً، نسأله عنه فيجيب: إنه في المتحف، انكسر ورممته ووضعته في الفيترينا، كان لدي أحلام كبيرة كان همي إقامة متحف بحري.
لكن رواياتك هي خير من وثق حياة البحر والمرافئ، يقاطعنا: ما نزلت البحر إلا والعواصف هائجة.
على طاولة صغيرة احتلت زاوية جانبية من غرفة المكتب المكتظة بالكتب واللوحات والصور التذكارية والعائلية، اصطفت علبتا دخان احداهما وطنية؛ تبغه المفضل، والأخرى فرنسية، الى جانب فنجان القهوة وكؤوس ماء وشراب. يستل سيجارة ليشعلها، ونسأله: كم علبة تدخن في اليوم؟ يجيبنا: «الذي يسكر لا يعد الأقداح». نعاود ونسأله: لماذا تدخن نوعين من التبغ في وقت واحد. يقول: لأني مجنون... رزقت أمي بثلاث بنات كن في ذلك الوقت ثلاث مصائب، فطلبت من ربها أن ترزق بصبي كيف ما كان يكون، فجئت أنا هكذا كيفما اتفق.
تعيّن على الطفل الذي جاء الى الدنيا كيفما اتفق عام 1924 أو بالخطأ، كما يعود ويؤكد، أن يهاجر مع عائلته من اللاذقية الى مدينة السويدية في لواء اسكندرون، ومن ثم الى الريف ليدخل في الثامنة من عمره المدرسة، وينال الابتدائية عام 1936، ويوقف دراسته. لم يكن بالإمكان إرساله لمتابعة تعليمه، بالكاد كان لديه «صندل» ينتعله شتاء، فيما يمضي شهور الصيف حافياً. فالأب كان حمالاً في المرفأ، وأحياناً بائعاً للحلوى أو أجيراً في بستان؛ وكثيراً ما كان يترك عائلته ويرحل بحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني مع أطفالها من الخوف والجوع، ما اضطر حنا للعمل في سن مبكرة، فاشتغل مثل أبيه حمالاً في المرفأ وكسب قروشاً زاد دخل الأسرة المؤلف من قروش أخرى هي أجرة أخواته، وغلة أبيه. ولاحقاً اشتغل في دكان حلاق، واقتصر عمله على شد حبل مروحة كرتون مكشكشة بالورق الملون لإبعاد الذباب وتجفيف عرق الزبائن.
في الدكان تفتحت مواهبه فاحترف كتابة الرسائل للجيران، كونه الوحيد الذي يفك الحرف في حي «المستنقع» الذي عاش فيه، قبل أن ينتقل من اللاذقية الى دمشق 1947، ويعمل في الصحافة، والأدب وتبدأ رحلة تشرده من أوروبا الى الصين. وكان لأولى رواياته «المصابيح الزرق» عميق الأثر وبالأخص لدى الشباب الثوري.
قلت له: روايتك «المصابيح الزرق» كانت أول رواية سورية أقرأها، و«بقايا صور» أثرت في كثيراً، لكن الرواية التي أبكتني هي «الربيع والخريف» حين وصفت نكسة حزيران. علق على كلامي: «أما أنا فالرواية التي أبكتني كثيراً هي «حمامة زرقاء في السحب» إنها قصة ابنتي التي أصيبت بالسرطان، وأخفيت الأمر عن أهلي لمدة عامين، عندما أخذتها للعلاج في الخارج، قالت لي: لا أريد ان اضيع مستقبلي..». لا يخفي حنا مرارة الذكرى ولا تلك الدموع التي خطرت على شفير الجفون، تهدج صوته برعشة حزينة: «لم اعرف ربي إلا عندما شال ابنتي سنة 1982...». تعثرت الكلمات في فمه. حاولنا الهرب من ذكرى مؤلمة عاودته إلى الحديث عن بناته الثلاث سلوى وسوسن وأمل، طبيبتين ومهندسة، متزوجات ولا ينقطعن عن زيارته. ثم سألناه عن وحيده الممثل سعد مينه، الذي استقل في بيت آخر استعداداَ للزواج، جميع أفراد العائلة حوله مع زوجته الطيبة مريم التي لم تفارقه أبداً، ( البيت حوله ممتلئ دائماً، إلا ان حبي الأكبر لسعد، الدنيا ليس فيها سوى سعد ).
نسأله عن الأصدقاء فيتحدث عن لحظة تلقيه نبأ وفاة محمد الماغوط: كنت مستلقياً بعد الظهر حين رن الهاتف هرعت لأستطلع من المتصل، جاءني صوت مراسلة صحافية، تخبرني أن الماغوط توفي، فأجهشت بالبكاء غير مصدق، فقالت لي دع البكاء لوقت آخر أعطني الآن تصريحاً صحافياً!! محمد صديقي، أحبه كثيراً، سألته إن كان يقبل أن أرشحه لنيل جائزة، وكان عنده أنفة وعزة نفس، قال لي: لا ترشحني إذا تذكروني كان به. وفعلاً تذكروه ونال جائزة، الله يرحمك يا محمد.
تداعت الذكريات لتصل إلى نزار قباني فترحم عليه مردداً قول بدوي الجبل فيه «إنه آخر سيف دمشقي معلق على الجدار»، كما مر على ذكر المرحوم القصاص البارز سعيد حورانية فوصفه بـ«الزكرت» (أي الشهم). ثم سألناه عن الأحياء وقصته مع اتحاد الكتاب. فرمقنا بنظرة من خلف دخان سيجارته قبل أن يعود ويطرق بنظره: أنا أسبح في السياسة كما تسبح السمكة في الماء. لقد انسحبنا من الاتحاد أنا وسعد الله ونوس من أجل أدونيس. كان همه الحصول على جائزة نوبل ومستعد لأي شيء من أجل ذلك.
يشرد قليلاً، ويعيد ممازحاً، كلاماً لسعيد عقل سمعه منه مستحضراً نبرة صوته الأجش: إلياس أبو شبكة قال عنك إنك عبقري؟ ولذا لم أزره بالمستشفى، لأن ليس هناك سوى عبقري واحد هو سعيد عقل. أنت يا حنا تستحق جائزتي، لكنك سوري. يتبع كلامه بضحكة قصيرة: أحب سعيد عقل.
يتشتت الحديث مع ندف الذاكرة، وتحضر الأسماء والشخصيات لأكثر من ساعتين كانت خارج سياق المألوف، في تدفق حر وعفوي لمبدع لم تهدأ جذوة الثورة في أعماقه، كذلك لم تخل استشهاداته من أبيات شعر للمتنبي، لنصل الى سؤال مزمن يلقى على مسامعه، من قبيل المزاح أو الجد، وهو كيف يكرر دائماً أنه لم يحب امرأة في حياته، ورواياته تعج بالمغامرات العاطفية؟ ينتفض متحديا: حنا لم يحب في حياته....
لكن هناك نساء أحببنك؟
هذه هي البلية... أنا حساس تجاه المرأة! لو أنني كنت حساساً وقادراً، شيء جيد. لقد كتبت بجرأة وعلَّمت الجرأة. أسهل طريقة للتحرر من الخطيئة، هو الاعتقاد بأن كل ما نفعله بصدق هو أخلاقي.
مضت ساعات اللقاء، وكأنها لفرط متعة الصحبة لم تكن سوى لحظة، ودعناه وفي النفس توق للبقاء. وعلى طريق العودة كان في البال بعض من أشعار رددها على مسامعنا:
أحمامة تبكي على الصيف
المودع أم علينا
كنا الملوك على الشباب
وكانت الدنيا إلينا
كنا الغصون الخضر
في كف الملاحة والتوينا.