الثلاثاء، 24 أبريل 2012

يقبض جمراً في رحلة تشرّد على حقل مسامير...حنا مينة: إذا كف المثقفون عن صوغ الأحلام سقطوا... وتشرنقوا كدود القز

«اسمع يا فصيح! الرجل لا تذله سوى شهوته، فلا تدع شهوتك تذلك» تلك هي نصيحة زودتها به جارته القوادة عندما جاء إليها مودعاً قبل خروجه من اللاذقية حيث دقت ساعة التشرد الطويل.
حينما صار التشرد مهنته التي مارسها وهو يحمل صليبه على كتفيه في أوروبا والصين فإن حنا مينة الروائي العالي يقبض على هذه الوصية- كما يقول- قبضه على جمر الغربة، ورمح الحراس في الجلجلة يطعن في خاصرته فينزّ الدم.
وصية أخرى أو نصيحة يحتفظ بها صاحب «نهاية رجل شجاع» كان سمعها صغيراً من والده «يا حنا الدهر دولاب لا عمك ولا خالك» أما أمه العجوز- كما يروي صاحب مأساة ديمتيرو- في كتاب له صادر عن وزارة الثقافة بعنوان «الجسدي بين اللذة والألم» فلا يعرف لأي سبب كانت تريده أن يكون كاهناً أو شرطياً فلم يكن لا هذا ولا ذاك وبعد أيام السجون والمنافي تواضع حلمها فتمنت لو كان راعياً.


خربشة ومسامير
في حديثه عن الكتابة والشهرة يقول مينة: أعرف تماماً كيف بدأت خربشة الكلمات، لكنني صدقاً، لا أعرف كيف صرت كاتباً مشهوراً، ولن أغش أحداً فأزعم أنه الحظ، لا!! هناك سهر الليالي أيضاً، والسير في حقل من المسامير، تاركاً نقطة دمع في موطئ كل قدم بعد أن طلبت العلم حتى في الصين.

نورس فوق اللجة الزرقاء

مينة الذي يقول: إن بينه وبين النوم عداوة منذ الطفولة، يقول أيضاً إن الطمأنينة لم تعرف سبيلها إلى قلبه ذلك أنه يعيش القلق زاداً يومياً وهذا ما يعتبره من حظه الأبيض فالطمأنينة برأيه تقتل الحب والإبداع ودونهما لا أدب ولا فن ودون الأدب والفن يجد أكثر الناس كل ما حولهم فراغاً لافتقارهم إلى البهجة التي تمدهم بالأمل وبالرجاء في مستقبل أفضل حتى لا تقتلهم الحسرة لذلك تجد مينة يبارك القلق الذي قال عنه بودلير «يا الوحش المفترس» ويبارك القلق لأنه الدافع إلى اكتشاف المجهول ويبارك القلق الذي باركه الفريد دي موسيه، ونفذ إلى سره شاعرنا المتنبي «على قلق كأن الريح تحتي» ويبارك القلق ثالثاً في العيش والكتابة رغم أن القلق- يعقب مينة- جعله يضطرب مثل نورس في ريح العاصفة المجنونة فوق اللجة الزرقاء التي منها أخذ شفاهه وكلماته ويباركه أيضاً لأنه عمّده بالنار الملتهبة- لا بمياه نهر الأردن الطهور- وقد وسمت هذه النار جبينه وظلت جذوتها متقدة في دمه وفي هذا الدم غمس يراعته ولا يزال يستسقيها الأرجوان في شرايينه.

أغلال الحديد.. وجبل الثلج

في نفسه ولنفسه يتساءل صاحب «شرف قاطع طريق»: ماذا لقيت من السياسة وبلواها؟ ولماذا أيها المسافر على جنح غمامة أضعت شبابك في السياسة وهولتها؟ وأي نفع لك ماضياً وحاضراً في أن تقول ما لا يقال وأغلال الحديد قد أكلت من معصميك لحماً نيئاً؟ وهل تحترق أنت بالكتابة في الشأن الداخلي بينما سواك يهرب من هذا الأتون إلى جبل الثلج؟ وكيف نسيت أن سيدة مسؤولة قالت لك وأنت تسألها: لماذا لا تكتبين عن القضايا الداخلية؟ «هل تريدني أن أحترق».

تحرش

لكن صاحب «المرصد» يكتب في الشأن الداخلي ولن يكون هناك حرق أو احتراق وأن كل مقالاته في القضايا الداخلية نشرت من دون «يحترق» ومن دون اعتراض من أي مسؤول حتى على القسوة التي في بعضها ما دامت الغاية في المآل هي تقويم الاعوجاج والتنبيه إلى الخطأ حيثما وقع وحيثما يمكن تداركه في السياسة والاقتصاد.
في الوقت ذاته يعلن صاحب «المرفأ البعيد»: نعم! إنه كاتب سياسي بامتياز، وإنه تعلم أبجدية السياسة من السجون والمنافي، وإن السياسة إحدى تجلياته المفضلة وإن من حقه التحرش بالسياسة من آن لآخر لافتاً إلى أنه لم يكن بهلواناً في يوم من الأيام ومهنة المهرج في السيرك لم تكن مهنته.

السقوط في العدم.. والتشرنق

المثقفون العرب برأي صاحب «المصابيح الزرق» لا يرون حتى في الأحلام ما هو عصي على الكلام عليه في اليقظة ولا يبصرون الأشياء على حقيقتها، من بين الأصابع، ولا تفوتهم، حتى والسهام في أكبادهم أن ثمة في الحياة جراح أحبة عليهم أن يبلسموها، ويدركون أنهم إذا لم يرقوا، إلى ما لا يرقى، على قدم، تقطعت بهم السبل، وعجزوا عن قطف النجوم بأيديهم السحرية، من المجرات التي تضيء دروب الأفلاك في دورانها وأنهم إذا ارتكنوا، كالعقدة، في زوايا السكون أساؤوا إلى قانون الحركة وإذا كفوا عن صياغة الأحلام سقطوا في العدم وإذا لم يستأنفوا ضد ما هو كائن في سبيل ما يكون انحطمت أقلامهم وتبدل حبرها الذي ذهب إلى حبر من ماء آسن وإذا تغذوا بأوراق التوت على موائد كان مصيرهم التشرنق كدود القز وإذا فقدوا شجاعة القلب تحولت الثريات في الجانب الأيسر من الجسم إلى شحم منه الورم الذي عابه المتنبي على ابن خالويه.

السمكة.. ونقيق الضفادع

في رسالته إلى نصفه المجنون يخاطب مينة نفسه بـ«يا فصيح» ويقول فيها: تكره نقيق الضفادع وقد يكون هذا ناشئاً عن وهن في أعصابك لأنك كما ترغب أن تصف القلم بأنه مبرد وأن هذا المبرد برى، أو أتلف أعصابك وهذا وصف يقارب الدقة إلا أنه نقيق ضفدعة هي أنت، أيها السمكة في بحر ولا تعرف أنها في بحر والنقيق المكتوم في ذاتك يحسن بك أن تخرجه إلى العلن لمصارحة الذين حولك بالحقيقة التي تأبى الاعتراف بها مع أن الاعتراف يريحك وعندئذ يكف النقيق الذي في داخلك حول الرغبة في الموت أو في الحياة وما دامت الكتابة هي خلاصك في هذا العالم فلماذا الاختباء وراء إصبعك؟ ولماذا تخفي حقيقة أنك تريد أن تكتب وتكتب وفيها اعتراف بأنك ترغب في أن تعيش؟

وسواس.. إدمان وظمأ

إذاً أنت يا فصيح- يعقب مينة- تنق وتشدد في الوقت نفسه على كرهك للنق والمسألة هنا من طبيعتك ككاتب والكتاب والفنانون ليسوا على صلح مع الحياة.. لأجل ما هو أفضل... الذي حماك يا فصيح من الانحدار إلى جحيم موبقات أنك جئت من السياسة إلى الأدب وليس العكس وأنك ناضلت بالجسد وأن مشكلتك نفسية ومن النوع الخطر فأنت مصاب بالوسواس القهري وقد انتبهت إليه وصارعته طويلاً ولا تزال تصارعه وفي صراعك الوحشي هذا مع الذي يُحس ولا يرى استعنت بالحبوب المهدئة من جميع الصنوف والمصادر فانتقلت من الوسواس إلى الإدمان ومن علاماته كثرة التدخين وسرعة الانفعال وانتفاء الرضى وخبث اللاشعور والظمأ العاطفي والبحث دون جدوى عن شيء لا تعرف ما هو عبرت عنه بقولك: «أنا نصف مجنون ونصف عاقل وأفضل نصفي المجنون على نصفي العاقل».

خبزنا اليومي... صمت وخجل

مينة صاحب «الثلج يأتي من النافذة» يسجّل أن أجمل ما في الحب هو الإمساك عن الكلام عليه، وترك التعبير عنه لومضة العين أو رفة الهدب أو حرارة اليد، أو تمسيدة الشعر، أو الذهاب مع القبلة في هنيهة من تخوم البداية إلى حافة النهاية، القبلة التي تكتب ذاتها على الشفتين، الوجنتين العنق، حبة القلب ثم يكون الصمت أبلغ، فنصمت، لأننا في الزمن الرديء هذا قد فرضوا علينا الصمت ومع الأيام والأعوام، ألفناه، اعتدناه، صار خبزنا اليومي وزاده سفرنا إلى الخجل حتى من أنفسنا.

نار في الراحتين.. ومطارق على الصدغين

صاحب «حكاية بحار» كثيراً ما سئل عن هاجسه الأدبي، وكثيراً ما أجاب أنه يجرب ويتثاقف ثم يكتب ذلك أن رأسه مملوء بالأفكار، بالرؤى، بالشخوص الروائية التي لا تفتأ تطارده طالبة أن يكتب عنها، أن يخلقها أدبياً، أن يجعلها ترى النور، هي التي عاشت في ظلام دامس بين طاسة الرأس والدماغ على شكل هيولى.
وحده قادر من خلال المعاناة في التجارب على تجسيدها على نفخ الروح فيها لتسعى حية بين الناس.
ويقول مينة: إنه عاش الهواجس على تعددها، تنوعها، تلاوينها وتهاويلها أيضاً ورغم أن مينة كتب الرواية والقصة والمقالة والدراسة في مختلف الموضوعات إلا أن النار- كما يقول- لا تزال تشتعل في الراحتين وتتوهج جذوتها بين الأظافر وتنبت كالفطر البنفسجي على رؤوس الأنامل وعليها أيضاًٍ تتخلق شخوص عبثاً حاول مينة نسيانها، الإشاحة عنها، الاختباء منها الهرب إلى الجنة أو جهنم فراراً من مطارقها التي تدق على الصدغين أبداً.. وهنا يرى صاحب «المستنقع» أنه على الكاتب أن يكون أو يعرف متى ينبغي أن يكون قابلة ومتى يكون حفار قبور.

كلمة... مقص.. أزاهير

صاحب «بقايا صور» كان من الحالمين وكان (حلمه كما يقول) أن يغيّر العالم بالكلمة لا بالمقص لأنه كان حلاقاً على باب ثكنة زبائنه من الجنود الفقراء الذين يتناسب فقرهم مع فقر دكان الحلاقة لكنه وبعد عقود من الكتابة في الرواية التي برع فيها يعتبر نفسه كاتباً بسيطاً يؤلف حكايات رائجة بسبب أنها مسلية وأنها فوق ذلك أو قبله مضبوطة الإيقاع، حسنة التشويق لا تحلم بتغيير العالم لأن هذا ليس دورها وإنما تطرح القضايا طرحاً صحيحاً يصوغ وجدانات الذين يعملون لتغيير العالم عن طريق البذل والتضحية ومقاربة النار التي تتفتح أزاهير عذاب على أناملهم.


علي الحسن - جريدة الوطن 
 2012-04-24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق